مع نهاية القرن الخامس عشر وبداية القرن السادس عشر، كانت الدول الأوروبية لاسيما فرنسا وألمانيا وإنكلترا، تزداد قوة على حساب سلطة البابا في روما.
ويتطلب الاستقلال الكلي للسلطة الزمنية تدخلا من الدولة في سير المؤسسات الكنسية، فعليها أن تحدد بعناية ما كانت تعتبر أنه من حقها مراقبته واستخدامه لغاياتها الخاصة، وهي غايات قومية، وما كانت تقبل بتركه بكل استقلال للكنيسة الكلية.
بسبب بعدهما عن البابوية في روما من جهة، وبسبب وجود تقاليد مؤسساتية للحكم من جهة ثانية، وطبقة نبلاء قوية توازن بين سلطات الملك والبرلمان من جهة ثالثة، كانت إنكلترا وإلى حد ما فرنسا نموذجين للدولة القومية السيدة الناشئة.
وكان كل ملك يسعى إلى الهيمنة على الكنائس المحلية وفصل ارتباطها بالكنيسة الأم في روما، أو على أقل تقدير، تخفيف تدخل البابوية في الشؤون الداخلية لهذه الممالك.
رغب الملك هنري الثامن بإصلاح أوضاع بلاده الداخلية اقتصاديا وسياسيا، ومعالجة تسرب الفكر اللوثري بسبب النقمة على المؤسسة الكنسية في انكلترا والشعور الشعبي العام بضرورة الإصلاح الديني، ونمو الروح القومية في بلاده.
كان العرش الانكليزي بحاجة متزايدة للضرائب والأموال لتمويل حروبه وحملته ضد فرنسا، في وقت كانت هذه الأموال تذهب إلى البابوية التي ليس لها موقف طيب من خلافات الانكليز، فقرر الشروع بحركة إصلاح ديني والعمل على تحويل البلاد من الكاثوليكية إلى الإنجليكانية، إذ أنه لم يشأ اتخاذ طريق البروتستانتية المعروف، لأنه كان يرغب بربط المؤسسة الدينية بالعرش الانكليزي وتحويل الكنيسة إلى مؤسسة وطنية، بعيدا عن مشاكل أوروبا الدينية والصراع المذهبي.
بداية الصراع
هذا الصراع تفجر في إنكلترا على خلفية قضية رغبة الملك هنري الثامن 1491 ـ 1547 في تطليق زوجته كاثرين أراغون لأنها لم تنجب له سوى بنت واحدة اسمها ماري التي عرفت في ما بعد باسم ماري تيودور ملكة اسكتلندا.
ولأنه كان يرغب بوريث للعرش، رغب في تطليق كاثرين والزواج من آن بولين أرملة أخوه الأكبر، والتي كان الملك مغرما بها.
رفضت آن بولين إغواءات الملك في أن تكون عشيقة له، وأصرت على الزواج شرط أن يطلق كاترين أراغون.
في عام 1527 راسل الملك هنري الثامن البابا كليمنت السابع ليطلب منه الموافقة على طلاقه من زوجته كاثرين أراغون.
لكن طلب هنري الثامن جاء في وقت غير مناسب، فخلال العام 1527 اجتاحت جيوش الإمبراطورية الرومانية المقدسة تحت زعامة شارلكان روما ليجبر البابا كليمنت السابع على مغادرة الفاتيكان.
وبعد أن حملت آن بولين بمولود منه، اتجه هنري الثامن إلى تسريع إجراءات طلاقه من كاثرين أراغون لتجنب فضيحة ولادة مولود غير شرعي، وعلى أثر تعسر مفاوضاته مع البابا، أقدم هنري على اعتقال وزيره توماس وولسي، المكلف بالمفاوضات مع البابوية.
تحت تأثير الراهب توماس كرانمر والمستشار توماس كرومويل اتجه هنري الثامن لإجراء إصلاحات دينية بإنكلترا، فما كان منه إلا أن منح كرانمر منصب أسقف كانتربيري الذي تكفّل بإبطال زواج الملك من كاثرين أراغون خلال شهر مايو من عام 1533 ليحصل بذلك املك على الطلاق الذي طالما انتظره.
وعقب ذلك ببضعة أيام، أعلن كرانمر عن شرعية زواج هنري الثامن وآن بولين التي تزوجها الملك بشكل سري منذ شهر يناير سنة 1533.
وكرد على ما اقترفه هنري الثامن، اتخذ البابا كليمنت السابع قرارا بالحرمان الكنسي ضد ملك إنكلترا لتبدأ بذلك القطيعة بين كنيسة إنكلترا والكنيسة الكاثوليكية.
الكنيسة الأنجليكانية
خلال العام 1534، مرر البرلمان الإنجليزي قرارا أصبح بموجبه الملك هنري على رأس كنيسة إنكلترا، واتجه الملك لحل جميع الأديرة الكاثوليكية ومصادرة ممتلكاتها ما بين عامي 1536 ـ 1540 لتبدأ إنكلترا باعتماد سياسة إصلاح ديني جديدة قطعت مع الكاثوليكية.
بيد أن هنري الثامن وجد من خلال علاقته بالبرلمان أن تأجيج الروح الوطنية في أوساط الشعب تتطلب المضي قدما في ترسيخ هيمنة مجلس العموم المنتخب على زمام البرلمان، فأصدر قانونا يوسع عدد أعضائه إلى 343، تسعين منهم يمثلون المقاطعات، ويمثل البلدات 253 عضوا، فيما انخفض عدد اللوردات إلى 43 لوردا، وسمح لثمان مقاطعات جديدة هي: كاليس، برويك أوين، بينغهام چستر، لانكستر، نيوبورت، أورفورد، وبرستن، بإرسال عضوين إلى مجلس العموم، وتمديد الدورة الانتخابية إلى سبع سنوات كحد أقصى، حتى يضمن بقاء مؤيديه في المجلس أطول مدة ممكنة، ويمنع بأسلوب قانوني وصول معارضيه للبرلمان.
وحصل الملك أيضا على دعم الطبقة الوسطى التي تبغي تقويته في مواجهة الأمراء الإقطاعيين والقضاء على النبلاء، إلى جانب تأييد عدد كبير من اللوردات الدنيويين الناقمين على سلطة روما ورجالها في انكلترا.
كان هذا الإصلاح سياسيا، لا دينيا على مستوى العقيدة، فما كان يهم الملك الإنكليزي هو إنهاء تبعية الكنائس الوطنية لروما، وجعل تبعيتها للدولة، فحتى هذه اللحظة ظل الملك هنري الثامن كاثوليكي وظلت الكنيسة الإنكليزية كذلك، فقد كره الملك اللوثرية وحاربها.
تقول غيرتروب هيملفارب إن التوازن الذي وسم التاريخ الإنكليزي بدا واضحا على مستوى الدين، فقد كان النظام السياسي متسامحا على مستوى العقيدة، ولم يكن هناك نزاع بين السلطات المدنية والسلطات الدينية، ولم تكن هناك حاجة للإطاحة بالدين لأنه لم يكن هناك بابا ولا محاكم تفنيش ولا كهنوت محتكر ولا كنيسة مضطهدة.
كانت المشكلة التي تواجه الملكية الإنكليزية هي القضاء على الولاء الروماني في الكنيسة، واستطاع الملك فعل ذلك عبر تسوية جعلت منه الحاكم الأسمى للكنيسة التي سميت بالأنجليكانية، وبجعل الكنيسة حاضرة في البرلمان عبر 26 أسقفا في مجلس اللوردات يعينون من قبل الملك.
وبالتالي لم تكن الأنجليكانية سوى كاثوليكية غير رومانية مبنية على قاعدة قومية مستقلة، لأن الملك قضى على البعد السياسي للكاثوليكية المتمثل في الولاء لروما، في وقت حافظ فيه على العقائد الكاثوليكية (الأسرار المقدسة السبعة: سر المعمودية الذي يستخدم الماء كمادة منظورة للمعمودية، سر زيت الميرون الذي يحتوي على أنواع أطياب مختلفة إشارة إلى مواهب الروح القدس المتنوعة، سر القربان المقدس (الإفخارستيا) تناول دقيق الحنطة ليتحول إلى غذاء سمائي وخبز سمائي، سر التوبة، ويكون بوضع الصليب على الرأس كمادة منظورة لغفران الخطايا، سر مسحة المرضى حيث يستخدم القنديل (زيت وفتيل)، سر الزواج بجعل الإكليل المقدس على رأس العريس والعروس إشارة إلى إكليل العفة والتقديس، سر الكهنوت حيث تكون المادة المنظوره هي اليد الأسقفية أو الكهنوت لمنح الموهبة والسر).
وقد ترتب على الراديكالية السياسية تحول تدريجي للكنيسة أو الكنائس الإنكليزية إلى كنائس وطنية، ولائها الأول والأخير لإنكلترا، فيما ترتب على الليبرالية الدينية انتشار واسع لفرق دينية ساهمت بدور كبير في الحياة العامة، فلا يمكن فصل تطور حركة الإصلاح وتثبيتها، وتحولها إلى كنائس وطنية، من دون فهم نشوء منطق الدولة، ونشوء الشعور الوطني في إطار الحضارة المسيحية.
ستعمل الليبرالية الدينية أثناء حكم هنري الثامن إلى انتشار الحركات الدينية الإصلاحية اللوثرية والكالفينية والطهرية، وستدخل إنكلترا بعد وفاته في صراعات دينية ـ سياسية دموية مع ابنتيه ماري تيودور المعروفة بماري الدموية واليزابيت الأولى.
حاولت الأولى إعادة الكثلكة إلى إنكلترا وإعادة سلطة البابوية، فشنت حربا دموية ضد البروتستانت، فيما اتجهت اليزابيت الأولى إلى استكمال خطوات أبيها في الانفصال التام عن روما، ومنح الدعم التام للبروتستانت.
وبغض النظر عن هيمنة الكاثوليكية أو البروتستانتية، فقد أدت خطوات الملك هنري الثامن وأبناءه إلى هيمنة الدولة على الدين، وبالتالي بداية مسار علمنة الدين.
يتساءل خوسيه كازانوفا عن أسباب اختلاف وضعية الدين بين بلد وآخر، ومع أن مقارنته كانت بين أوروبا والولايات المتحدة، فإن هذه المقارنة تصلح أيضا للتمييز داخل الفضاء الأوروبي ذاته، بين فرنسا وإنكلترا على سبيل المثال، وقد وجد السبب الرئيسي في هذا التغير خارج الدين لأن الإصلاح البروتستانتي بشقيه السياسي والعقيدي كان واحدا في جميع الدول التي شهدت حركة الإصلاح الديني، وبالتالي فسبب تغير وضعية الدين مرتبط بطبيعة الدولة والكنيسة والثقافة العلمية.
فكلما كانت الكنيسة عقبة أمام العلمنة والتحديث كان رد الفعل راديكاليا (فرنسا)، والعكس صحيح، حينما قبلت الكنيسة دنيوة ذاتها وقبلت بهيمنة السلطة المدنية، لم تكن هناك حاجة لنقد مدني راديكالي (إنكلترا)، فقد كانت عملية هيمنة الدولة على الكنيسة في إنكلترا تتم عبر عملية سياسية وأيديولوجية، فُرغ لها عدد كبير من الكتاب الذي شكلوا ما يمكن تسميته حملة وعي كبيرة لنشر مبادئ الإصلاح الرسمي.
كالفن: كيف قاد الإرهاب الديني إلى العلمنة (2-2)
كالفن: كيف مهد الإرهاب الديني إلى العلمنة 1-2
اليسوعية: الإصلاح الديني المضاد