لقد كانت الأردن من ضمن المناطق العربية الشاسعة التي سيطرت عليها الدولة العثمانية، لكنها كانت المنطقة الأكثر إهمالا ومظلومية من بين المناطق العربية. وإذا كانت الدولة قد حافظت على وجود رمزي في الحواضر الأساسية وفي بعض مناطق الفلاحين، فإنها تركت الكثير من مواطنيها يعيشون في مجتمع الفوضى واللادولة، وجل ما كان يشغل بال الباب العالي هو تحصيل الضرائب وتجنيد أبناء الفلاحين في حروبه.
وإذا كانت المنطقة الواقعة شرقي
نهر الأردن هي الممر الرئيسي لطريق الحج الشامي، فإن الباب العالي اكتفى بتوزيع
"الصرة" العصملية على زعماء البدو كي يحموا قوافل الحج، وبعد ذلك فلتفعل
هذه القبائل ببعضها بعضا ما تشاء من غزو وسلب ونهب وفرض خاوات...الخ.
وإن كانت الدولة العلية بدأت تحاول الالتحاق
بركب الحداثة الغربية وتطوير نفسها منذ مطلع القرن الثامن عشر، فإنّ تلك المحاولات
كانت مقتصرة على العاصمة ومراكز الولايات الرئيسية في البلاد. وظلّت أغلب مناطق
شرقي الأردن على أرض الواقع خارج حسابات الحداثة التي أجرتها الدولة، وربما كان
أول اصطدام للأردنيين بمنجزات الحداثة في أواخر العهد العثماني، حينما قررت الدولة
إنشاء سكة الحديد الحجازية، ولقد هاجم البدو هذه السكّة، وحاولوا تخريبها مرارا؛ لأنهم أيقنوا أن الدولة قررت الاستغناء عن خدماتهم.
قبل ذلك بسنوات طويلة، حاولت الدولة تأهيل
القبائل البدوية التابعة لها اسميا، وذلك من خلال إرسال دعاة وأئمة لنشر تعاليم
الإسلام، لأن سيطرة الفقه مقدمة لسيطرة الدولة. فقد كانت القبائل البدوية وكثير من
الفلاحين لا يعرفون من الإسلام سوى الشهادتين وطقوس رمضان دون الحاجة إلى الصيام
أحيانا. ويبدو أن الدولة لم تكن جادة بما فيه الكفاية أو أنّ الضعف الذي بدأ
يتسرّب إلى جسدها منعها من تنفيذ مشاريعها التحديثية. غير أنّ مهمة الخطباء نجحت
بإقناع بعض الشيوخ بممارسة الشعائر والعبادات؛ فيبدو أن الشيخ جديع بن هذّال أُعجب
بفكرة الجنّة وتحصيل أملاك ومكاسب فيها دون الحاجة إلى الغزو والقتال؛ فأكثر من
الصلاة والصيام حتى أشغلته العبادة عن الزيارة اليومية لمحبوبته "عليا"
عند نبع الماء.
فأخذت الفتيات يسخرن من عليا وأخبرنها أنّ
حبيبها مشغول عنها بالصلاة؛ فأخذت تسألهن عن الصلاة: (من هي الصلاة؟ بنت من هاذي؟ وين
هي عربها؟). فأخبرنها أن الصلاة عبادة مشهورة عند الشوام وليست فتاة، فوعدتهن أن
تنهاه عنها. وبالفعل ذهبت إليه في اليوم التالي فوجدته فارشا عباءته للصلاة، فهجته
بقصيدة مطلعها:
يا حيفي ع (إجديع إبن هذّال) / ألسيفِ كِن
بَدَّله بإبريق
مثلْ عجوز على منوال / يتوضّا قبلْ فِكوك
الريق
وعرضت عليه أن يبيعها صلاته مقابل خمس قبلات،
فاستأذنها أن يستفتي صديقه الشاعر المشهور نمر بن عدوان قبل أن يقبل صفقة البيع.
وذلك لأن نمرا درس في القدس والأزهر الشريف ويعرف في أمور الدين؛ فنظم قصيدة يعرض
بها تفاصيل الصفقة ويسأل عن جواز هذا البيع؟
وحينما وصلت القصيدة إلى نمر رد عليها بقصيدة
يعبّر فيها عن فضل العبادة والتمسّك بالدين إن كان يستطيع ذلك، أما إن كان لا
يستطيع الصبر على فراق محبوبته فإنّ البيع سنّة بين الناس. وبذلك فقد أفتى له بصحة
البيع(1).
أمّا الاصطدام الحقيقي لسكان شرقي الأردن مع
منجزات الحداثة ومخترعاتها الحديثة فقد بدأ مع قدوم الاستعمار البريطاني وإنشاء
إمارة شرقي الأردن. ومن الطبيعي في مراحل التحوّل والنقلات الكبرى في حياة
المجتمعات أن تقع حوادث ونوادر سببها الدهشة الأولى التي يحدثها الالتقاء بالجديد
ومحاولة التعاطي معه. ومثل هذه الأمور حصلت في كل المجتمعات العربية في مراحل
تحولها. وسنحاول في هذا المقال تسليط الضوء على عدد من النوادر والطرائف التي وقعت
مع المحاولات الأولى لاستخدام الأردنيين منجزات الحداثة:
السيارة
يُعد الشيخ مثقال الفايز -شيخ مشايخ بني صخر-
أول شيخ بدوي يمتلك سيارة في العشرينات من القرن العشرين، وكانت القبائل البدوية
لم تتوقف عن الغزو بعد، ويبدو أن الفايز قرر أن يستخدم سيارته في إحدى الغزوات
التي كانت تستهدف غزو قبيلة الرولة. وبالفعل لحق بالفرسان الذين انطلقوا على
خيولهم ومعه السائق وحارس شخصي، ولقد نجحت الغزوة وأصابوا غنائم كثيرة. ولكن حينما
قرروا الانسحاب طلب الشيخ من السائق أن يزوّد السيارة بالبنزين، غير أن الأخير
أخطأ وصب الماء بدلا من البنزين مما تسبب في تعطّل السيارة. فركب الشيخ مثقال فرسا
وشارك في القتال، بينما أحاط مجموعة من فرسان القبيلة بالسيارة حتى تمكّن السائق
من معالجة الخلل وعادت إلى العمل(2).
القانون
كان الناس -في جنوبي بلاد الشام وشمالي
الجزيرة العربية- قبل انتشار المدارس يتبعون تعاليم العادات والتقاليد في أمور
حياتهم اليومية ومعاملاتهم، أمّا الدين فهو يعبّر عن نزعتهم الصوفية في التقرّب من
الله والأولياء ولم يعتنوا كثيرا بتطبيق الأحكام الفقهية التي ارتبط تطبيقها
بالمدن المركزية في بلاد الشام. فعلى سبيل المثال كانت المرأة المطلقة تتزوّج
مباشرة بعد حصولها على الطلاق دون أن تنتظر شهور العدّة. وحينما تمكّنت الدولة
الأردنية من فرض نفسها حاولت أن تمنع الكثير من الممارسات التي تصطدم مع الأحكام
الفقهية التي منها سفر المرأة دون المحرم الشرعي عبر فرض القوانين التي تنظم سفرها.
اقرأ أيضا: الفلم الكوري "المتطفّلون": الضحك المؤلم والطبقيّة الحارقة
ولقد حاول الأردنيون
في البداية الاحتيال على هذه القوانين، لكنهم وجدوا أنفسهم تورطوا في مشاكل
قانونية عويصة. ففي عام 1939م قرر المواطن عبدالغني الشرع، من فلاحي لواء الكورة،
الذهابَ إلى الحج برفقة زوجته، وحينما علمت جارته الأرملة طلبت منهما أن ترافقهما
إلى الحج. ولأن القوانين والأنظمة أصبحت تمنع سفر المرأة دون محرم قام الشرع
بتسجيل الجارة كزوجة ثانية، وكان من الصعب كشف مثل هذه الأمور في ذلك الوقت.
وبالفعل رافقتهم الجارة في الرحلة التي كانت تستمر عدة شهور وعادت إلى بيتها
سالمة، وكانت هذه الأمور تُعد من قبيل النخوة والشهامة. ولكن المشكلة ستقع بعد
سنوات طويلة حينما مات الحاج وقام الورثة بإجراءات حصر الإرث؛ فقد تبيّن أنّ
الجارة من بين ورثة المرحوم بوصفها زوجته الثانية. ولولا أن الجارة قابلت النخوة
والشهامة بمثلهما وتنازلت عن نصيبها عند القاضي لكانت قاسمتهم أملاك الحاج الشهم(3).
وبعد سقوط الدولة العثمانية نشأت في شرقي الأردن مجموعة
من الحكومات المحلية تحت إشراف بريطاني محدود. وكانت هذه الحكومات تستمد قوتها من
قوة الزعيم الذي يقودها، وفي حال وجود زعامات منافسة داخل حدود الحكومة فإن عملها
يبقى معطلا وضعيفا كما حصل في حكومة السلط التي كان زعماء البدو يرفضون الخضوع
لسلطتها ويعدون أنفسهم فوق القانون. فعلى سبيل المثال كان هناك خلاف بين الشيخ
مثقال الفايز وإحدى العائلات على قطعة أرض، فقام الأول بوضع يده عليها واستملاكها
بالقوة. وحينما لجأ الطرف المقابل إلى حكومة السلط قام الضابط البريطاني فريدريك
بيك -الذي سيصبح لاحقا قائد الجيش العربي الأردني- بتشكيل قوة للقبض على الفايز
الذي يسكن قرية أم العمد، لكن أفراد القوة انسحبوا تباعا من المهمة خوفا من السطوة
والقوة التي عُرف بهما الشيخ، ليصل بيك وحيدا. فما كان من الشيخ مثقال إلا أن سجنه
في مخزن التبن، ومن ثم أعلن استقلال أم العمد عن حكومة السلط(4).
أما بعد نشوء الدولة وفي بداياتها، فقد حدث أن قُتل أحد
عبيد الشيخ مثقال؛ فجن جنون الشيخ وساءه أن يتم التعرّض لأحد تحت حمايته. وكان
هناك مشتبه به رئيسي في قضية القتل اشتهر بين الناس بأنه قاتل العبد. وبالفعل تم
القبض عليه وتحويله إلى المحكمة، ولكن القاضي لم يجد أدلة كافية تدين المتهم وأراد
تبرئته. غير أنّ الشيخ مثقال تدخّل معلنا طبيعة الحكم الذي يتوجب على القاضي
إعلانه وهو الإعدام. ويقال إنه أجبر القاضي على تعديل الحكم، غير أنّ حرارة الروح
دبّت في نفس المتهم وفرّ هاربا بحياته(5).
لاحقا سيلعب الشيخ مثقال دورا مفصليا في تثبيت حكم
الهاشميين في الأردن، وسيكون من المناصرين للأمير عبدالله الأول وسيستلم ابنه عاكف
رئاسة مجلس الأمة في عهد الملك حسين وحفيده فيصل سيصبح رئيسا للوزراء في عهد الملك
عبدالله الثاني وحاليا هو رئيس مجلس الأعيان.
أول فيلم أردني
في عام 1957م شرع مجموعة من هواة السينما في الإعداد
لإنتاج فيلم سينمائي؛ فأسسوا شركة إنتاج برأسمال وهمي وقاموا بالتجهيز للفيلم بشكل
ارتجالي. وخرج الفيلم إلى النور تحت اسم (صراع في جرش)، وكان من بين المشاهد مشهد
مشاجرة بين عدّة أشخاص، وكان الممثلون يجهلون أن الضرب في الأفلام السينمائية
عبارة عن خدعة فنية وليس ضربا حقيقيا. لذلك قاموا بضرب بعضهم بعضا بشكل جدّي ودون
تهاون كي لا يؤثر ذلك على مستوى المصداقية في الفيلم؛ الأمر الذي أدّى إلى إحداث
كسور في العظم عند بعضهم وإلى المكوث في المستشفى(6).
المخترعات الحديثة
حينما بدأت الكهرباء بالدخول إلى القرى لم يصدق الأهالي
ما يروى عن قدرة الكهرباء على الفتك بالإنسان إذا أساء استخدامها. فقرر بعض أهالي
القرى في إربد -قريتي سموع وزمال- إخضاعَ المقولة للتجربة؛ فاجتمعوا في منطقة وسط
بين القريتين يقال لها "المثلث" وجاءوا بحمار وربطوه بسلك وشبكوا السلك
بالكهرباء وحينما مات الحمار تأكدوا من صدق الخبر(7).
ويروي الحاج عبدالمحسن العفيف -من أبناء جرش- أنه بعد
خروج الجيش الإنجليزي من الأردن عثر إخوته على بطاريتين، ولكنهم ظنوا أنهما
قنبلتان، فقرروا أن يكلفوا أسرع شخص في الركض من بين أفراد العائلة واسمه حسين
-كان يقطع 25 كيلومتر في الساعة- بأن يقوم برمي البطاريتين (القنبلتين) في النار
ومن ثم يهرب. وبعد أن أنجز حسين مهمته انتظروا حدوث الانفجار، ولكن انتظارهم كان
بلا طائل لأن البطارية لا تنفجر!
ويتذكّر الحاج عبدالمحسن أول شخص اشترى
"راديو" في مدينة جرش اسمه "علي طالب"، وحينما ذهبوا للسهر
عنده ورؤية الراديو وجدوه يخاطب الراديو قائلا: (أنا ما بدي تجيب حكي من بلاد
قريبة أنا بدي حكي البلاد البعيدة)!(8)
الهوامش:
1-حكايات من البادية: روكس بن زائد
العزيزي، ص47-61.
2-الشيخ مثقال سطّام الفايز: عمر
العرموطي وعوّاد البخيت، ص147-149.
3-رواية شفوية من حفيده: عبد الغني
الشرع.
4-الشيخ مثقال سطّام الفايز: عمر
العرموطي وعوّاد البخيت، ص60-61.
5-رواية شفوية: الشاعر ماهر القيسي.
6-مقابلة مع سمير مطاوع، برنامج
"حلوة يا دنيا" ، قناة رؤيا.
7-رواية شفوية: سيف الدين مساعدة.
8-مقابلة مع الحاج عبدالمحسن العفيف،
أجراها عام 2008: علي طه النوباني وخضر عتوم وعبدالله الحناتلة.
تعرف على الروايات العربية المرشحة لجائزة "البوكر" 2020
"أسبوع المورد الثقافي" بتونس: بين مدونات وسياسات ثقافية