في حوالي (30) مقالا، ذكرت فيها النقاش حول قضية الرجم وأدلتها، ونقاش هذه الأدلة، ومن قال بأن الرجم تعزير، ومن قال بأنه منسوخ، وبقي أن أعرض ما أقول به وهو: لا رجم في الإسلام، وأراه منسوخا، ولم يعد حدا من الحدود، لا تعزيرا ولا حدا، ولو تركت القلم للاستفاضة في الموضوع لاحتجت لمثل العدد الذي كتبت، لكني اختصارا، سأنهي هذه السلسلة بمقال اليوم إن شاء الله، ذاكرا أدلتي على ما ذهبت إليه.
أدلتي من القرآن الكريم:
فلي على ما ذهبت إليه، وذهب إليه قبلنا علماء كبار، أدلة على أن الرجم منسوخ، وليس حداً قائماً، وهي ما يلي:
1 ـ تكامل حديث القرآن عن عقوبة الزنى:
إن المتأمل لسياق الآيات القرآنية التي تحدثت عن عقوبة الزنا، سواء للمحصن أو لغير المحصن، بين الرجال والنساء، أو بين الرجال والرجال، أو النساء والنساء، بعد النقاش الطويل الذي سقناه في كتابنا حول تفسير آيات سورة النساء، الآية: 16،15، ثم الآية الأولى من سورة النور، يتبين له أن الآيات بمجملها تتحدث عن منظومة حدٍّ من الحدود، وهو حد الزنا بكل ألوانه، أو الفاحشة بكل أقسامها، وعقوبة الفاحشة، فتحدثت آيتا سورة النساء عن زنا الرجال بالرجال، والنساء بالنساء، وبينت عقوبة كل منهما، بالإيذاء والحبس.
من الأدلة المهمة هنا على أن الجلد هو آخر تشريع في الزنا: أن آيات اللعان نزلت بعد أحداث الرجم،
ثم جاءت سورة النور لتبين عقوبة
زنا الرجل بالمرأة، وهو الجلد مئة جلدة، وقد شمل حديث القرآن الكريم في ذلك ممارسة الفاحشة من الرجال والنساء، سواء كانوا محصنين أم غير محصنين، وبذلك نتحدث عن آيات محكمات لا نسخ فيها، بل نكون قد أعملنا جميع النصوص، وهو الأولى عند الترجيح، بدلاً من إبطال نص، وتفعيل الآخر.
2 ـ نزول آيات اللعان بعد أحداث الرجم:
ومن الأدلة المهمة هنا على أن الجلد هو آخر تشريع في الزنا: أن آيات اللعان نزلت بعد أحداث الرجم، ويؤكد ذلك أن معظم النصوص التي ورد فيها الرجم، أو الجلد لأحد الزانيين والرجم للآخر، كما في حديث امرأة العسيف، فقد أرسل النبي صلى الله عليه وسلم أنيساً وقال له: "اغدُ أنيس على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها"، وحديث: "أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فأقر عنده أنه زنى بامرأة سماها له، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المرأة، فسألها عن ذلك؟ فأنكرت أن تكون زنت، فجلده الحدَّ وتركها".
وما أستنبطه من هذين الحديثين وغيرهما مما ورد في الرجم، وقد أرسل النبي صلى الله عليه وسلم يسأل الطرف الآخر، أن ذلك كان قبل نزول آيات اللعان. وأن آيات اللعان نزلت بعد حوادث الرجم، وليس قبلها، وهو ما يعني نزول آية الجلد في سورة النور معها، فعلى أقصى تقدير من قال بحوادث الرجم أنها نزلت بعد إسلام أبي هريرة وخالد وقدوم ابن عباس المدينة، وهذا يعني أنه في عام 8 هـ، فكل ما ساقوه من أدلة على ذلك ليست صحيحة، فحديث شهود خالد ضعيف، ولم يحدث أبو هريرة وابن عباس بحضورهما أي حادثة، بل رووا الحديث، وهذا مما يعتبر في مرسل الصحابة كما ذكرنا.
وعلى فرض صحة حضور هؤلاء الصحابة أحداث الرجم، فهذا يعني أن حوادث الرجم على أقصى تقدير كانت سنة 8 هـ، بينما آيات اللعان واضح من حديث سهل بن سعد الساعدي أنها كانت قبيل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم مباشرة، أي في السنة العاشرة أو مطلع الحادية عشرة من الهجرة، أي: بعد أحداث الرجم يقيناً.
3 ـ التنصيف والتضعيف:
كما أن الرجم لا يتفق مع نصين مهمين في عقاب الزاني؛ الأول: قوله تعالى: {فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب} النساء: 25، والآخر: {يا نساء النبي من يأتِ منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين وكان ذلك على الله يسيرًا} الأحزاب: 30. ففي الآية الأولى، من حيث تنصيف العذاب، كيف ينصف الرجم؟ وفي الآية الثانية كيف سيضاعف الرجم، والرجم موت، والموت لا يضاعف على الإنسان؟ والشيء الوحيد هنا الذي ينصف ويضاعف هو الجلد، لأنه معدود، ويسهل تنصيفه وتضعيفه بلا شك.
وقد ذكرنا من قبل نقاش العلماء في الإحصان، وتفسير الآية التي تبين حد الأَمة إذا أحصنت، ولا داعي لإعادة ما ذكرناه فيها من قبل.
4 ـ معنى كلمة (العذاب):
ومن الأدلة كذلك على أن العقاب هو الجلد لا الرجم: أن مفردة (العذاب) في سياق العقوبة في القرآن الكريم تدل على الجلد فقط؛ ففي قوله تعالى: {وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين} النور: 2، ما العذاب هنا؟ إنه أقرب مذكور، وهو الجلد مئة.
ثم جاءت المفردة نفسها في سياق آيات اللعان، في حديث الآيات عن عقوبة المرأة الزانية المتزوجة، التي يراها زوجها تزني، وليس له شهود، فإما أن يقام عليها الحد، وإما أن يدرأ عنها، فقال تعالى {ويدرأ عنها العذاب}، أي العقوبة؛ ما العقوبة التي نص القرآن على أنها عذاب هنا؟ إنها نفس العذاب الذي سيشهد عليه طائفة من المؤمنين، وهو: الجلد؛ فليس هناك عذاب أو عقاب منصوص عليه للمتزوجة في القرآن كله سوى الجلد.
وفي عقاب الأمة المحصنة، قال تعالى: {فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب}، نفس اللفظة، العذاب؛ فما عقاب المحصنة الذي يقبل التنصيف؟ إنه الجلد لا الرجم، وهو العقوبة الوحيدة المذكورة في القرآن.
وفي قوله تعالى: {يا نساء النبي من يأتِ منكن بفاحشة يضاعف لها العذاب} فما هو العذاب الذي يقبل التضعيف؟ وما هو العذاب الوحيد المذكور في القرآن كعقوبة؟ إنه الجلد فقط. فمفردة (العذاب) في القرآن الكريم في سياق العقوبة لا يقصد بها إلا الجلد فقط .
5 ـ أحكام تدل على حياة الزاني المحصن بعد الحد:
وهناك أحكام وردت في القرآن الكريم تبين أن الزانية المتزوجة لها أحكام تخصها، تدل على أنها ستظل حية بعد الحكم عليها، فمن الطبيعي ألا يكون الحكم عليها بالرجم؛ إذ الميت لا أحكام له إلا الغسل والكفن والدفن. والقرآن في أحكامه لا يصدرها على معدوم، أو على حالات لن تكون موجودة.
لكنّ هناك أحكاماً بيّنها القرآن الكريم تدل على أن من أتت الفاحشة، أو الزنا هنا، وهي متزوجة، لها أحكام تدل على حياتها بعد إقامة الحد عليها، وهذا معناه أن الحد الواجب عليها فقط: هو الجلد مئة جلدة. من ذلك قوله تعالى: {الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} النور: 3.
هناك أحكام وردت في القرآن الكريم تبين أن الزانية المتزوجة لها أحكام تخصها، تدل على أنها ستظل حية بعد الحكم عليها
ووجه الاستدلال هنا: أن الآية بينت حكماً شرعياً، وهو حكم الزواج بمن أقيم عليها حد الزنا، أو أقيم عليه، وهذا معناه أنه سيبقى حياً يمارس حياته، ووضع له الشرع أحكاماً، فلو كان حكمه الوفاة، وهو الرجم، فمعناه أنه ليست له أحكام يمارسها، سوى أنه ميت.
ومن الأدلة على بقاء من يقام عليها حد الزنا حية لا تموت، وهو ما يعني أنه ليس الرجم: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} الطلاق: 1.
فالآية واضحة في حكم المطلقة، أنها لا تخرج من بيت الزوجية حال طلاقها طلاقاً رجعياً، بل تبقى تقضي عدتها في بيتها، وذلك أملاً في أن يردها الزوج، إلا أن تأتي بفاحشة مبينة، وهذا معناه: أنه عند إقامة الحد ستظل حية باقية، وإلا لا معنى للحديث عن إخراجها من البيت، أو بقائها فيه، إذا كانت ستقتل رجماً بالحجارة، والقرآن يأمرنا قبل إخراجها وبعد إخراجها بإحصاء عدتها، أي تكمل عدتها بعد خروجها.
أدلة من السنة النبوية على نفي الرجم:
وهناك أدلة من السنة النبوية تدل على أن الرجم ليس حدّاً، ومنها:
ما ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يُقِم الحد على إنسان معترف على نفسه بالزنا، وهو محصن، وفي حالة اغتصاب، فدل ذلك على أن الرجم ليس حدّاً؛ فقد ورد:
6 ـ "أن امرأةً وقع عليها رجل في سواد الصبح، وهي تعمد إلى المسجد، فاستغاثت برجل مر عليها، وفر صاحبها، ثم مر عليها قوم ذو عدة، فاستغاثت بهم، فأدركها الذي استغاثت به، وسبقهما الآخر فذهب، فجاؤوا به يقودونه إليها، فقال: إنما أنا الذي أغثتك، وقد ذهب الآخر. فأتوا به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبر أنه وقع عليها، وأخبره القوم أنهم أدركوه يشتد، فقال: إنما كنت أغيثها على صاحبها، فأدركوني هؤلاء فأخذوني، قالت: كذب، هو الذي وقع علي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اذهبوا به فارجموه. قال: فقام رجل من الناس، فقال: لا ترجموه، وارجموني، أنا الذي فعلت الفعل، فاعترف. فاجتمع ثلاثة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم: الذي وقع عليها، والذي أجابها، والمرأة؛ فقال: أما أنتِ فقد غفر الله لك، وقال للذي أجابها قولاً حسناً.
فقال عمر رضي الله عنه: ارجم الذي اعترف بالزنا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا، لأنه قد تاب إلى الله ـ أحسبه قال ـ توبة لو تابها أهل المدينة، أو أهل يثرب، لقبل منهم. فأرسلهم" .
والحديث هناك من ضعفه وهناك من صححه، كابن القيم، والمباركفوري، والألباني، ومعنى ترك النبي صلى الله عليه وسلم هنا للرجل الذي زنا بالمرأة بالإكراه، يدعونا للتوقف طويلاً، لأنه يعتبر دليلاً قوياً لمن يقول بتعزيرية الرجم، أو نسخه، لأنه لو كان حدّاً فكيف يتركه النبي صلى الله عليه وسلم دون رجم؟ خاصة أن كل من أتوه من قبل أتوه طائعين مقرين، بلا شهود، وكان زناهم برضا الطرف الآخر، سواء كان رجلاً أم امرأة، وهنا صاحب الحادثة زانٍ بالإكراه، فقد جمع مع الزنا إكراه الطرف الآخر، ومع ذلك لم يرجمه النبي صلى الله عليه وسلم.
7 ـ وهناك حالة أخرى، لم يقم فيها النبي صلى الله عليه وسلم حد الرجم فيها؛ فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم، فجاءه رجل، فقال: يا رسول الله إني أصبت حداً فأقمه علي، قال: ولم يسأله عنه، قال: وحضَرَتِ الصلاة، فصلى مع النبي صلى الله عليه وسلم، فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة قام إليه الرجل فقال: يا رسول الله إني أصبت حداً فأقم فيّ كتاب الله، قال: أليس قد صليت معنا؟ قال: نعم، قال: فإن الله قد غفر لك ذنبك، أو قال: حدَّك .
6 ـ القواعد العامة والمقاصد تنفي الرجم ولا تثبته:
ومن تأمل في القواعد العامة في الإسلام، سواء الأصولية، أو
الفقهية، فإنه سيجد أنها تعضد نفي الرجم. وقد كتب الدكتور مصطفى الزلمي مبحثاً مهماً في كتابه: (لا رجم في القرآن) عن القواعد العامة التي تدل على عدم مشروعية عقوبة الرجم، فقسمها إلى قواعد أصولية، وقواعد فقهية، وقواعد منطقية، وقواعد فلسفية، وقواعد عقلية، فأجاد فيما كتب، فيراجع ما كتبه ونضيف لما كتب هذه القاعدة التي ذكرها الإمام القرطبي في تفسيره؛ إذ يقول: (ظهر المؤمن حمى لا يستباح إلا بيقين، ولا يقين مع الاختلاف) . فالقرطبي يتحدث هنا عن جلد الظهر، فما بالنا بالقتل رجماً بالحجارة؟! فالعقوبات في الإسلام، التي تمس جسد الإنسان المسلم، لا بد من اليقين فيها، فما بالنا بالعقوبة التي تمس حياته، ويقتل فيها يقيناً، وليس احتمالاً؟ عندئذ لا بد من يقين في مثل هذه العقوبة.
أما عن المقاصد الشرعية، فإن الحديث عن المقاصد في الزنا يدخل في بابين من حفظ مصالح الناس، أو حفظ ضروراتهم، وهما: حفظ العرض، وحفظ النسل؛ فهل يدخلان في باب المصالح الضرورية، أم الحاجية؟ فحفظ النسل والعرض يدخلان في باب الحاجي، لا الضروري، كما رجح الطاهر ابن عاشور؛ فهل تكون عقوبة فعل ما يدخل في الحاجي هي القتل؟ وحفظ النفس معدود في باب الضرورات لا الحاجيات، فهنا تعارض لا يتناسب في العقوبة، فكيف يعاقب الإنسان على أمر يدخل في باب الحاجيات بعقوبة فيها إهدار نفسه، وحفظ النفس من باب الضرورات؟! هنا تعارض واضح.
ولذا يترجح بمقاصد الشريعة: العقوبة على الزنا بالجلد، لأن الجلد يبقى به الإنسان حياً، على خلاف قتل النفس، وهي من الضرورات، فكان العقاب عليها بالقصاص بالقتل، فالجزاء من جنس المقصد، ومع ذلك فتح باب الشرع فيه باب العفو عن القاتل، فكانت العقوبة مناسبة للفعل، على خلاف الرجم، فالعقوبة لا تتناسب مع الفعل في بابه المقاصدي، مما يرجح الجلد لا الرجم.
ذكرنا هذه الأدلة اختصارا، وإلا ففي مجال الإسهاب والاستدلال باب كبير، لمن يريد البحث العلمي بشكل محايد دقيق، يبغي به الحقيقة العلمية، ويظل هذا الرأي رأيا علميا لن يحسم الجدل حول (الرجم)، ولا يصادر على أي رأي يخالفه.
ملحوظة: المقالات التي نشرت على موقع
(عربي21) حول الموضوع، هي خلاصة للموضوع، ويقبل الكاتب النقاش فيها، والتصويب والتخطئة، والنقاش العلمي النزيه، فالحق هو ما ننشده مما كتبنا.
الهوامش:
1 ـ هذا الدليل أملاه علي شيخنا القرضاوي في ظل مناقشاتنا وحواراتنا حول الرجم، فهو له من حيث التأصيل، وليس لي منه إلا الصياغة، ولم يكتبه شيخنا في أي كتابٍ من كتبه.
2 ـ رواه البيهقي في السنن الكبرى (17399) وفي الصغرى (3398)، وابن الجارود (823)، والطبراني في الكبير (23/15).
3 ـ رواه البخاري (6823).
4 ـ انظر: تفسير القرطبي (3/1714).
Essamt74@hotmail.com