قضايا وآراء

الإسلام والرجم (30): القائلون بنسخ الرجم

1300x600

ذكرنا في مقالين سابقين أسماء علماء معاصرين كبار قالوا بأن الرجم تعزير، وأنه ليس حدا، والآن يأتي الحديث عن طائفة أخرى ذهبت إلى أن الرجم منسوخ، فلا هو حد، ولا تعزير، بل تشريع انتهى تماماً، سواء كان في بعض الحالات بناء على مبدأ: شرع من قبلنا، أو بداية تشريع وانتهى بالقرآن، أو أنه ليس بتشريع ثابت أصلاً، لا ابتداء، ولا نسخاً. أي: إنه لا رجم في الإسلام. 

وقديماً قال بهذا الرأي: الخوارج، وبعض المعتزلة. وممن أيد من القدامى هذا الرأي: أحد علماء الفقه الزيدي، ونقل عنه ذلك الإمام الشوكاني عند حديثه عن رأي الخوارج في الرجم، فقال: (وقد شدَّ من عضدهم في هذا البحث المحقق الجلال)(1) ، ثم هاجم الشوكاني هذا الرأي والمحقق الجلال نفسه، بعبارات شديدة.

ومن المعاصرين: الشيخ عبد المتعال الصعيدي، والأستاذ محمد عزة دروزة، والشيخ محمد أبو زهرة، والمستشار علي علي منصور، ود. أحمد حجازي السقا، ود. محمد سعاد جلال(2) ، ود. مصطفى الزلمي، ود. مصطفى محمود، ود. طه جابر العلواني، ود. محمد سعيد حوى، وآخرون. 

ومؤخرا تواصل معي بعض طلبة العلم من الهند وباكستان، وأخبروني أن هناك من قال بنفس الآراء التي تنفي الرجم حدا، وسوف أعرض آراءهم بالتفصيل في حينها، ومنهم من يعتبر أسبق من كل العرب المعاصرين، وعلى رأسهم: الشيخ عبد الحميد الفراهي، وقد توفي سنة 1930م. وغيره من علماء شبه القارة الهندية.

فمنهم من كتب رأيه بتفصيل، ومنهم من أشار إلى رأيه أو ميله لهذا الرأي دون تفصيل. وسوف أذكر أسماء أصحاب هذا القول وأدلتهم حسب ما يتيسر، محيلاً إلى الملحق في آخر الكتاب لمن أراد تفاصيل أدلتهم. وسوف أذكر الأشخاص حسب التسلسل الزمني لأقوالهم.

1 ـ عبد المتعال الصعيدي:

أول من قال بهذا الرأي في العصر الحديث في بلاد المشرق والمسلمين العرب هو: الشيخ عبد المتعال الصعيدي، وقد كتب مقالاً في: (السياسة الأسبوعية) التي يصدرها الدكتور محمد حسين هيكل، بعنوان: (التشريع المصري وصلته بالفقه الإسلامي)، الصادر في يوم 20 شباط/فبراير سنة 1937م، دعا فيه الصعيدي للاجتهاد في الحدود، وذهب إلى أن الأوامر في الحدود ليست للوجوب، بل للإباحة. ثم رد عليه كتّاب آخرون، منهم الشيخ محمد الخضر حسين وآخرون.

ونتج عن ذلك أن حوِّل الصعيدي للتحقيق، ثم بعد ذلك عوقب بحرمانه من التدريس في الجامعة الأزهرية، وتحويله إلى التدريس في المعاهد الثانوية الأزهرية، فكتب الصعيدي كتاباً كاملاً عن الحدود، ولكنه ظل مخطوطاً مخافة أن ينشره، وكتب قصة موضوعه وما تعرض له، في كتاب باسم: (قضية مجاهد في الإصلاح)، ولكن ظلت مسألة الحدود في تصور الأستاذ الصعيدي كموضوع كتاب، مكتوب، لكنه لم ينشر، وظل مخطوطاً، ومنه نسخة في مكتبة الأزهر مخطوطة.

والشيخ الصعيدي يرى أن الرجم منسوخ، مستدلاً بذلك أن حوادث الرجم المروية في السنة كلها قبل آية سورة النور، ومؤيداً لأدلة الخوارج التي ساقوها لنفي الرجم، ومستدلاً على هذا الرأي بنصوص وأدلة، ومن قواعد اللغة العربية كذلك، في عدة صفحات مطولة؛ بل بعد ميله لنسخ الرجم كتب مبحثاً بعنوان: (التخيير في حد الزنا)، مبيناً أنه يمكننا أن نعمل بآية سورة النساء، {فأمسكوهن في البيوت}، وأنها ليست منسوخة، ويمكن العمل بها.

 

طائفة أخرى ذهبت إلى أن الرجم منسوخ، فلا هو حد، ولا تعزير، بل تشريع انتهى تماماً، سواء كان في بعض الحالات بناء على مبدأ: شرع من قبلنا، أو بداية تشريع وانتهى بالقرآن، أو أنه ليس بتشريع ثابت أصلاً، لا ابتداء، ولا نسخاً. أي: إنه لا رجم في الإسلام.


وقد نقل عبد المتعال الصعيدي عن الإمام النيسابوري ذكره أدلة الخوارج في إنكار الرجم وعرضه لأدلتهم دون تشنيع، فقال: ولا شك أن أسلوب النيسابوري في هذا يدل على أن هؤلاء القوم كان لهم اجتهاد في إنكار الرجم، ولم يكن إنكارهم له مبنياً على هوى أو نحوه مما لا يصح أن يُعتدّ به، فيجب أن يُلحق اجتهادهم في هذا باجتهاد غيرهم، وهم ينكرون ثبوت الرجم بالتواتر كما جاء في "المبسوط" ص 36 ج 9. 

والقول بأنه لا يجوز تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد يشاركهم فيه كثير من أهل السنة، وهو مذهب جمهور الحنفية، على أن للخوارج أن يقولوا كما قال غيرهم، بأن أخبار الرجم لم يثبت بيقين أنها متأخرة على آية الجلد، فيجوز أن تكون منسوخة بها.

وقد ذكر الصعيدي أن ابن حزم ذكر أخباراً يحتج بها من يذهب إلى سقوط الحدّ بالتوبة على وجهٍ يُشعر بأنها تصلح أيضاً أن تكون حجة لمن يذهب إلى نسخ الرجم.

ويقول الصعيدي: يمكننا بعد هذا كله أن نحكم بأن مسألة الرجم ليست بهذه السهولة التي يصح أن يغض النظر عن اجتهاد الخوارج في إنكاره، فقد ثبت أولاً أن الخلاف في شأنه كان في عهد عمر رضي الله عنه قبل ظهور أولئك الخوارج، وثبت ثانياً أن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ عبد الله بن أبي أوفى ـ كان متوقفاً في أمره، لأنه لا يدري أرَجَم رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل سورة النور أم بعدها؟ 

وكان لأبي عبد الله، واسمه علقمة بن خالد الأسلمي، صحبة أيضاً، وقد شهد عبد الله سبع غزوات مع النبي صلى الله عليه وسلم، وكان مما شهده الحديبية وحنين وغيرهما، وهو من أصحاب الشجرة الذين رضي الله تعالى في كتابه عنهم، ثم نزل الكوفة سنة ست أو سبع وثمانين، وكان آخر من مات بها من الصحابة، وقد روى أحاديث شهيرة، وممن روى عنه أبو إسحاق الشيباني، والحكم بن عتيبة، وسلمة بن كهيل، وإبراهيم بن السكسكي، وعمرو بن مرة، وشعناء الكوفية.(3)

هذا مجمل رأي عبد المتعال الصعيدي القائل بنسخ الرجم، وأنه ليس حدا ثابتا، وهو رأي نال بسببه الفصل من التدريس في الجامعة الأزهرية، وظل كتابه مخطوطا حتى الآن للأسف، لعل الله أن ييسر لنا إخراجه إن شاء الله.

الهوامش:

1 ـ انظر: السيل الجرار، ص: 846.
2 ـ نشر في ذلك الدكتور محمد سعاد جلال ثلاث مقالات تحت عنوان: (الرجم لا يتعين حداً للزاني المحصن)، في مجلة الهلال سنة 1981م.
3 ـ انظر: في الحدود الإسلامية للشيخ عبد المتعال الصعيدي، كتاب مخطوط.

Essamt74@hotmail.com

الأكثر قراءة اليوم
الأكثر قراءة في أسبوع