منذ عدة أيام خرج دونالد
ترامب في زينته منتشيا بفوزه على بني جلدته الأمريكان وفشل محاولة عزله في مجلس الشيوخ وهو بصحبة المجرم نتنياهو، وأعلن ما أطلق عليه بصفقة القرن، تناول فيها عددا من القضايا التي كانت متوقعة، مثل أن الضفة بالكامل للكيان، ولا عودة للاجئين، والتأكيد على أن القدس موحدة تحت السيطرة اليهودية وان الدولة
الفلسطينية المزمع إنشاؤها ستكون منزوعة السلاح، وتخفيض الوجود فلسطيني في أرض 1948، والتأكيد على ضم الكيان للجولان وأي أراض عربية أخرى.. وغير ذلك من جوانب تنهي القضية الفلسطينية وتزيد من هيمنة الكيان ليس فقط على فلسطين الإسلامية ولكن على كامل المنطقة شرقا وغربا شمالا وجنوبا.
وبالفعل بدأت اجراءات التنفيذ في اليوم التالي، ولم يتوان الصهاينة عن ذلك، فهذا ما كانوا يخططون له منذ التأسيس عام 1948. وكالعادة لم ينس ترامب أن يروج للحلم الأمريكي ويجعل العالم يحلم بالسراب مثلهم، فأعلن عن توفير ما يزيد عن خمسين مليار دولار لعمل مشروعات للفلسطينيين وللدول المجاورة لتوطين الفلسطينيين لديها.
قد يعتقد البعض أن الصفقة الملعونة بدأت مع كوشنر أو ستنتهي مع ترامب، بالطبع لا، فالصفقة بدأت منذ أكثر من مئة عام وستنتهي مع تحقيق حلم
إسرائيل الكبرى من النيل للفرات (إلا أن يشاء الله غير ذلك). وما نراه ما هو إلا حلقات نشاهدها في تسلسل عجيب، والمخرج يستحق جائزة نوبل وليس الأوسكار. وهذا حق لهم من وجهة نظرهم مع أنهم هم الباطل، فإنهم يعملون ويخططون لتحقيق ما يحلمون به ويقومون بتنفيذ ما يخططونه. بلا شك ساعدهم الكثير من المعسكر الآخر، أو بمعنى أصح ممن يتشدقون بالحق الفلسطيني، وكان أولهم عبد الناصر في ثاني اجتماع للقمة الأفريقية في القاهرة عام 1964، طالب الرئيس الغيني أحمد سيكو توري بوضع قضية فلسطين على جدول أعمال المؤتمر وبحثها، فقام عبد الناصر، وكان رئيس المؤتمر وقتها، ورفض بحجة أن قضية فلسطين هي قضية عربية لا تخص إلا العرب. وكانت هذه بداية التعامل الخطأ مع القضية، ثم توالت التنازلات من قضية عربية إلى قضية فلسطينية لا تهم إلا الفلسطينيين ولا يتحدث باسمها غيرهم (وقد نادى بذلك حتى من ينتمون للمنهج الإسلامي)، ثم إلى قضية غزة وقضية الضفة، وفي أوسلو إلى غزة وأريحا أولا وأخيرا.
ولا أعتقد أن الأمر سيتوقف عند هذا الحد، بل سيستمر التوسع طالما من يقف أمامهم وهو صاحب الحق يتنازل ويتراجع، فلماذا لا يتقدم أصحاب الباطل؟؟
وهناك الكثير من الأمثلة على هذا النموذج، فعندما يكون هناك نزاع بين طرفين فإن تراجع أحدهما نجد أن الآخر يتقدم، لذلك نجد المتخصصين في علم التفاوض يطالبون بعدم التنازل عن الحقوق إلا عند التوقيع على الاتفاق. ولكننا نجد أن أصحاب الحق في القضية الفلسطينية تنازلوا عن حقوقهم ويتنازلون عن حقوقهم دون الحصول على أي اتفاق، ولكن يفعلون ذلك على أمل أن يحدث اتفاق. والأمثلة كثيرة، بداية بياسر عرفات عام 1974، والذي تنازل وقبل بحل الدولتين حالما بأن هذه الدعوة سوف تغري الصهاينة ويوافقون عليها، ثم كان السادات عام 1977 وتنازل عن كل شيء بخصوص فلسطين، ولم يحصل حتى على كامل الحقوق المصرية. وتلاه محمود عباس مهندس أوسلو، وتبعه الملك حسين في وادي عربه الذي قبل فقط بالإشراف على الأماكن الدينية في فلسطين. وفي عام 2002 حدث التنازل العربي بالكامل. ثم ما كان من حركة حماس الإسلامية التي قبلت في وثيقتها الأخيرة الصادرة في أيار/ مايو عام 2017، حيث قبلت فيها بحل الدولتين وقبلت بحدود 67، وإن كانت قدمت بديباجة طويلة عن الحق التاريخي في كل فلسطين وغير ذلك من تمهيد.
ويلاحظ أن إعلان ترامب بأن القدس موحدة هي عاصمة للكيان تم أيضا قبل نهاية عام 2017 (في شهر كانون الأول/ ديسمبر).
وإذا نظرنا إلى ردة الفعل العربي والإسلامي تجاه الإعلان الترامبي الأخير نجد أنه لا شيء يذكر مقارنة بما كان يحدث من قبل تجاه أحداث مشابهة. فالكل يذكر كيف كانت ردة الفعل تجاه ما حدث عند قيام أحد الصهاينة بمحاولة حرق المسجد الأقصى عام 1969، وكيف ثارت الأمة الإسلامية بكاملها شعوبا وحكومات، وتم اتخاذ خطوات عملية لتحقيق الوحدة الإسلامية عن طريق إنشاء منظمة المؤتمر الاسلامي التي كان من المفترض أن يكون مقرها القدس عند التحرير، كما ذُكر في لوائح المنظمة وفي قرارات اجتماعات وزراء الخارجية للدول الإسلامية.
وتوالت الانتهاكات الصهيونية للقدس وللفلسطينيين، وبدأت ردود الفعل تضعف تارة من قبل الحكام وتارة من قبل الشعوب. وهنا أذكر الصحفي ورسام الكاريكاتير الفلسطيني الراحل، ناجي العلي رحمه الله، وشخصيته الشهيرة الطفل حنظلة، وكيف كان يتندر على مواقف الحكام العرب وحتى قيادات منظمة التحرير وقتها عند حدوث الانتهاكات ألإسرائيلية المتتالية، سواء في لبنان أو في الضفة وغزة، وغيرها، وكان موقف العرب (الذين قال عبد الناصر إنهم المسؤولون عن القضية ورفض تدخل غيرهم) هو الاستنكار والشجب، ولكن للأسف تزايدت الانتهاكات ولم يتم عمل شيء، وذهبت القدس كلها ولم تتحرك الدول ولا المنظمة ولا غيرها.
حتى الشجب والاستنكار لم يعد متاحا، فقد أيدت بعض الدول العربية ما أعلنه ترامب، بل وحضر بعض السفراء العرب الإعلان عن الصفقة، والبعض الآخر من الدول لم يوافق بشكل علني ولم ينكر أيضا بشكل علني، وهذه الدول هي الأغلبية. أما البقية القليلة فاستنكرت وشجبت بطريقة ذر الرماد في العيون، وحتى تونس التي شجبت واستنكرت بهذا الشكل سحبت مندوبها في الأمم المتحدة عندما سعى مع مندوب أندونيسيا في المنظمة الدولية في توزيع مشروع قرار يدين الصفعة دوليا، وذلك خوفا من اهتزاز العلاقات التونسية الأمريكية وغضب سيد البيت الأبيض، والإخوة في النهضة ما يزالون مشغولين هل يشارك قلب تونس في الحكومة القادمة أو الذهاب لانتخابات مبكرة.
لقد استطاع الصهاينة ومن ورائهم جحافل الباطل في العالم أن يصلوا إلى ما يريدون دون حرب بهذه الصفعة التي لن تكون الأخيرة. وعلى هامش هذه الصفعة وحولها نرى هرولة عبد الفتاح البرهان (السيسي) لمقابلة نتنياهو في أوغندا والترتيبات التي تسربت عن تطبيع قادم بين المغرب والكيان، وما نشر أخيرا عن لقاء قادم بين محمد بن سلمان السعودية ونتنياهو إسرائيل. ولا ننسى أن السبق في هذا كله يعود لما قامت به قطر عام 1996 باستقبال رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق شمعون بيريز من جانب أمير قطر وقتها، حمد بن خليفة.
كما ذكرت من قبل نقلا عن الأستاذ مصطفى مشهور رحمه الله، أن طريق الانهيار و"الزحلقة" إلى الهاوية يبدأ دائما بتنازل واحد ثم تتبعه تنازلات حتى الوصول إلى أسفل "الزحلقة". ومع عظم التحديات يعتقد البعض أن مواجهتها يكون بالقليل من التنازل، ولكن هذا الاعتقاد يجانبه الصواب خصوصا للضعفاء وثبت ذلك في أمثلة عديدة. لذلك علينا أن نعيد النظر في ما قدمنا من تنازلات دون فائدة، وأن نتراجع عنها بل والاعتذار عن ذلك، ونخطط ونعمل على أن نستعيد قوتنا، ربما ليس في أجيالنا الحالية. ولنكن على يقين أن الحياة مستمرة إلى قيام الساعة، وأن الحق لن يضيع طالما وراءه مطالب لا يتنازل عنه. ويجب أن نكون نموذجا للأجيال القادمة بعدم التنازل مهما واجهنا من تحديات، وليس هذا فقط بل أن نعمل ونجتهد قدر المستطاع.
والله المستعان وهو من وراء القصد وهو يهدي السبيل.