قبل فترة دعاني الدكتور أحمد يوسف لحضور حفل توقيع كتابه بعنوان "الأب مانويل مسلّم أيقونة وطن"، في جمعية الشباب المسيحية في مدينة غزة، فذهبت.. أعجبتني الفكرة والتنفيذ والإخراج.
والذي أعجبني أكثر أن رجلاً مسلماً يكتب بإيجابية عن رجلٍ غير مسلمٍ، وهذا يعكس الثقافة الواسعة التي يتمتع بها أصحاب الأفق الواسع، والتي يجب أن نتمتع بها جميعاً، حيث إن الاختلاف في الدين أو الرأي السياسي وغير ذلك من أوجه الاختلاف يجب أن لا يكون حاجزاً بين الإنسان وبين قول الحق والحقيقة وإنصاف الآخر وذكر مزاياه، وهذا نهج قرآني حيث قال الله عزوجل: "لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى". ولنا في هرقل حين سأل أبا لهب عن رأيه في سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام فذكر إيجابياته، رغم ما بينهما من اختلافات وصلت للعداوة.
قرأت الكتاب، وأتفق مع ما
كتبه "البطريرك ميشيل صباح"، بطريرك القدس سابقاً، الذي يصف الكتاب بأن "قراءته سهلة وممتعة من حيث الصيغة والمضمون".
وفي مقدمته، يذكر الكاتب قصة تعارفه مع "الأب مانويل" وانطباعاته عنه، وعن إعجابه الشديد بشخصيته الوطنية الجامعة. ومن جميل ما أعجبني أنه "شخصية وازنة واسعة الثقافة والمعرفة وهي بصلابتها ومواقفها الوطنية لا يشق لها غبار، وهو رمز ديني بمشاعر وأحاسيس إنسانية راقية، كما أنه أيقونة وطنية نعتز بها كفلسطيني وتفتخر به طائفته".
في الكتاب تأكيد على عمق العلاقة بين
المسلمين والمسيحين، ويروي الكاتب قصة رواها له أحد أصدقائه من حي الزيتون بأن المطران "بيونيت خير" كان "يمر على كل جيرانه من المسلمين للسلام عليهم في أعيادهم الدينية، أيضا في المناسبات الاجتماعية، وكانوا هم يبادلونه الزيارة كذلك للتهنئة والتبريك".
تطرق الكاتب لعلاقة "الأب مانويل" بالرئيس "ياسر عرفات"، حيث ذكر ما كتبه مانويل عن عرفات: "لقد ارتقت وطنية أبي عمار فوق الحزبية والعرقية والطائفية الدينية".
تحدت الكاتب عن الإشاعات التي انتشرت بعد فوز حماس 2006 في الانتخابات تتنبأ بمصير الطائفة المسيحية، وأن حالة من الخوف والهلع عمت الطائفة المسيحية، وربما يشهد قطاع غزة هجرة باتجاه الخارج، لكنه (الكاتب) أدرك ذلك مسبقاً فنشر مقالاً باللغة الإنجليزية حول
المسيحيين في غزة وعلاقتهم القوية بحماس.
لم يفت الكاتب التعريج على ما قاله "الأب مانويل " إبان حرب 2014 للمسلمين: "إذا هدموا مساجدكم ارفعوا الأذان من كنائسنا"، وللمقاومة في قطاع غزة "احفروا الأنفاق وتقدموا يجب على كل
الفلسطينيين الدفاع عن حماس لأنها فصيل مقاوم".
من جميل ما رأيته في الكتاب هو رغبة أحمد يوسف في إظهار آراء أصحاب أهل الرأي في شخصية "الأب مانويل"، فضمن الكتاب شهادات لساسة وكتاب ومفكرين وشعراء وعلماء دين مسلمين ومسيحيين عرفوا "الأب مانويل"، سواء معرفة مباشرة أو غير مباشرة، ووجدتهم اتفقوا على أنه "رجل وطني بامتياز وصاحب حضور ويتمتع بمستوى عالٍ من الثقافة".
يذكر الكاتبُ مدللاً على عمق العلاقة بين المسلمين والمسيحين: "إن المسيحين الفلسطينيين أسهموا إسهاماً كبيراً في الحياة السياسية والثقافية لفلسطين، فالطباعة والصحافة كانت (إلى حد كبير) بين أيديهم، وكانوا رواداً في تأسيس الصحف، ولمع بين مشاهير فلسطين الكثير من المسيحين منهم خليل السكاكيني، وإدوارد سعيد، وإميل حبيبي، وخليل بيدس، بل إن أحد أبرز مساعدي الحاج المفتي أمين الحسيني هو إميل الغوري المسيحي، ومن أبرز الذين عملوا معه مباشرة عزت طنوس وعيسى نخلة، وهما مسيحيان، كما أن الحزب العربي الفلسطيني الذي أسسه المفتي بنفسه وتولى قيادته جمال الحسيني كان موقع نائب الرئيس فيه مرصوداً للوطني الفلسطيني المسيحي "ألفرد روك".
في الكتاب معلومات قيمة وجب علينا جميعا معرفتها، ففي القدس يوجد 15 ألف مسيحي بينهم ستة آلاف يعيشون داخل أسوار البلدة القديمة، وستة الآف آخرين في مناطق بيت حنينا وبيت فاجي وجبل الزيتون، بينما يقيم قرابة ثلاثة آلاف خارج الجدار العازل في الضفة الغربية، وأن نصف المسيحيين في القدس يحتفلون بعيد الميلاد المجيد بحسب التقويم الغربي، والنصف الآخر حسب التقويم الشرقي.
يوجد في القدس 13 مؤسسة كنسية معترفا بها من السلطة الفلسطينية لـ133 مؤسسة دينية، وسبعون كنيسة وديرا داخل أسوار البلدة القديمة وستون خارجها.
وعن توزيع المسيحيين يشير الكاتب إلى أنهم يتوزعون على النحو التالي:
الروم الارثوذكس 51 في المئة، اللاتين (الكاثوليك) 33 في المئة، الروم الكاثوليك 6 في المئة، البروتستانت 5 في المئة، السريان والأرمن الأرثوذكس 3 في المئة لكل منهما، الاقباط والأحباش والموارنة وغيرهم من المسيحيين 2 في المئة. ويصل عدد المسيحيين العرب داخل الخط الاخضر إلى 117 ألفا ينتمون للروم الأرثوذكس، بينما ينتمي نحو ستة آلاف منهم للبروتستانت.
لو تطرقنا للكتاب من ناحية فنية شكلية، فهو كتاب حمل غلافه صورة "الأب مانويل" وخلفه صور المسجد الأقصى والكنائس، وهذا دليل على التآخي بين المسلمين والمسيحيين.
ويقع الكتاب في ثمانية أقسام، يسبقها مقدمات كتب أولها البطريرك "ميشيل صباح " بطريرك القدس سابقاً، وتفرد بالثانية الأستاذ "خالد مشعل" رئيس المكتب السياسي لحماس سابقا، وكانت الثالثة من نصيب الدكتور "حسن الصيفي" وكيل وزارة الأوقاف والشؤون الدينية سابقا.
فالقسم الأول تناول "فلسطين مهد الديانة المسيحية"، بينما الثاني تناول
السيرة الذاتية لـ"الأب مانويل"، وتحدث الثالث عن عمل "الأب مانويل" في الأردن، والرابع خصصه الكاتب للحديث عن تحديات "الأب مانويل" للعمل والاحتلال، وسمى الكاتب القسم الخامس "الأب مانويل رجل الإجماع المسيحي- الإسلامي"، أما القسم السادس فحمل اسم "الأب مانويل، تجليات إنسان"، والقسم السابع كان بعنوان "الأب مانويل شهود وشهادات". ويختم الكاتب كتابه بوثائق عبارة عن كلمات "الأب مانويل"، مثل: "مانويل مسلم يعزي باستشهاد الشيخ أحمد ياسين"، و"رسالة للرئيس محمود عباس"، و"كلمة مانويل مسلم للشباب"، و"إلى مؤتمر الإسلام والغرب"، ثم صور تجسد بعضاً من حياة "الأب مانويل" في المناسبات الرسمية والشعبية.
كما أن الكلمات مشكلة تشكيلاً جميلاً بالفتحة والضمة والكسرة، وكل العلامات الجميلة وهذا يشعر القارئ انه يقرأ كتاباً نوعياً، وكما نقول بالعامية "متعوب عليه".
لقد استمتعت جداً بقراءة الكتاب، خاصة الجزء الذي يتحدث فيه "الأب مانويل" عن سيرته الذاتية، عرفت كيف عاش المعاناة ككل الفلسطينيين.
علمت منه أن "جفنا" تبعد عن بيرزيت مسافة كيلومترين، وحينما قرأت "جفنا" والشيء بالشيء يذكر، فإن أبي رحمه الله، وامي أمد الله في عمرها، حدثانا عن بدايات الهجرة من فلسطين وخروجهم من صرفند العمار 1948، أنهم مروا بـ"جفنة". وتشاور كبار العائلة ما بين البقاء بجفنة وبين التحرك لغزة، فاستقر الأمر نحو التحرك لغزة. ثم إن "جفنا" ذكرتني بزميلة لي اسمها "جولين" كانت في جامعة محمد الخامس بالرباط بين عامي 1999 و2003. كانت مسيحية من قرية "جفنا".. كانت مسيحية الدين وإسلامية السلوك، فلا تفطر في رمضان أمامنا مثلا.
تعرفت من سيرة "الأب مانويل" على فكرة "المناولة"، وهي الكشف للطفل بعد سن سبع سنوات عن سر من أسرار الكنيسة، وعلى معانٍ جديدةٍ وطقوسٍ جديدة، ولما شعر بغربة في اللغة ومفرداتها، بل أرجعتني مفردات عديدة لزمن الصبا حينما قرأت "الشديدة" المطاطة التي تستخدم في صيد العصافير.
تعلمت منه أن الإنسانية ليست حكراً على تاريخ أو جغرافيا أو ديانة أو فصيل، وأن التألم لآلام الآخرين الضعفاء والبسطاء والباحثين عن الحياة هو قمة الإنسانية، وأن الضمير الذاتي أقوى من كل الدساتير والقوانين الخارجية.
أختم: على الإنسان كي يعيش إنساناً أن ينفتح على الآخر، يفهمه ويتعايش معه في منطقة القواسم وليس القواصم، ولا يحكم عليه بآراء معدة سلفاً في دهاليز العادات والتقاليد. فحتى وإن اختلف الأخوان في الطول والعرض، فعليهما أن يتذكرا أنهما أبناء أم واحدة.
فشكرا للأب مانويل حنا شحادة مسلّم، وشكرا للدكتور أحمد يوسف.