تحرص الأطراف المرتبطة بالصراع
الفلسطيني الإسرائيلي على تحسين شروط المواجهة القادمة، بحيث تضمن نقاط تفوق تتيح
لهذه الأطراف تقليل الخسائر، وخلق مستوى ردع يؤدي إلى تحقيق مكاسب جيوسياسية.
المقاومة الفلسطينية والاحتلال وحلف
إيران، وعلى رأسه حزب الله، يشترون الوقت بالتلويح باستخدام القوة، أو تنفيذ
عمليات عسكرية محسوبة النتائج وفق قواعد الاشتباك التي تفرضها ظروف الميدان، بهدف
تأخير المواجهة الواسعة وفقا لحسابات كل جبهة، سواء الجنوبية مع المقاومة
الفلسطينية أو الشمالية مع حلف إيران.
سلوك المقاومة الفلسطينية عموما
وحماس على وجه الخصوص؛ يشير إلى أن شراء الوقت يستهدف تأخير المواجهة مع الاحتلال
إلى حين توفر ظروف يمكن من خلالها إحداث تغيير جوهري يؤثر إيجابيا على الواقع
الفلسطيني، ويحسن موقع المقاومة.
وتشكل جولة التصعيد الأخيرة بين
المقاومة في غزة والاحتلال منتصف الشهر الجاري، عقب اغتيال القيادي في سرايا القدس
بهاء أبو العطا، نموذجا واضحا على سياسة شراء الوقت، حيث أدارت حماس المواجهة
بعيدا عن ردات الفعل، رغم الضغوط التي تعرضت لها، بينما حرص الاحتلال على استئناف
التهدئة والعودة لقواعد الاشتباك التي فرضتها مسيرات العودة وجولات التصعيد منذ
عدوان 2014، لتجاوز مرحلة حالة التيه السياسية الحالية في الكيان.
في الجبهة الفلسطينية وأمام الأزمات
المتراكمة، تواصل المقاومة اعتماد الضغط الشعبي (مسيرات العودة) والتلويح بقدرات
المقاومة المسلحة؛ وسائل من أجل تخفيف ضغط الحصار والحفاظ على صمود الجبهة
الداخلية، وتجنب المواجهة العسكرية الواسعة، في المرحلة الراهنة.
في الخطابات الأخيرة ليحيى السنوار،
قائد حماس في غزة، كرر استعراض قدرات المقاومة العسكرية وهدد باستخدامها ردا على عدوان
يخرق قواعد المواجهة من الاحتلال، ما يشير إلى أن الحركة تلوح بسلاحها في هذه
المرحلة للحفاظ على معادلة الردع، بينما تضع الخيار العسكري حلا أخيرا يمكن اللجوء
إليه إذا ما استنفدت المقاومة الشعبية الجهد والوقت، أو في حال دفع الاحتلال
المقاومة اتخاذ خطوات حاسمة تجاه إنهاء حصار غزة، والتصدي لحالة التغول في الضفة
الغربية.
وعليه تبقى التهدئة بين الاحتلال
والمقاومة وملحقاتها الإنسانية والاقتصادية؛ محطة لشراء الوقت على صعيد الحصار، باعتبارها
الحد الأدنى الذي يمكن أن يتيح للمقاومة الانتظار إلى حين اتضاح الرؤية في المشهد
الإسرائيلي والبيئة الإقليمية، والتي ستنعكس بشكل كبير على توجهات الفلسطينيين
وقراراتهم، سواء المقاومة في غزة أو توجهات السلطة في رام الله.
في السياق الداخلي تحاول حماس احتواء
اثار الانقسام عبر إدارة العلاقة مع السلطة وحركة فتح، من خلال التعاطي بإيجابية
مع مقترح الرئيس محمود عباس بإجراء انتخابات عامة، وهو مقترح لجأ اليه عباس أيضا
لشراء الوقت في ظل تراكم أزمات السلطة، وانغلاق الأفق السياسي لمشروع التسوية، بل
وانهياره بسبب المواقف الأمريكية المنحازة تماما للاحتلال.
وتأمل حماس أن تشكل العملية
الانتخابية، سواء استكملت دورتها حتى النهاية أو توقفت في إحدى مراحلها، فرصة
للأطراف الفلسطينية الداخلية، احتواء تداعيات الصراع الداخلي ولو مؤقتا، والتحرر
من أعباء الضغوط الداخلية، لمواجهة التحديات الخارجية.
في المقابل، فإن معادلة شراء الوقت
باتت مرتبطة بشكل أساسي بالأزمة السياسية التي تعصف في الكيان، جراء الإخفاق
المتكرر في تشكيل حكومة بعد جولتين انتخابيتين، والوصول إلى أعتاب الثالثة، وهو ما
أثر على توجهات ومواقف الفاعلين الفلسطينيين (حماس والسلطة)، فيما يحرص الاحتلال
أيضا على شراء الوقت عبر التهدئة والمناورة على الجبهات الشمالية، لتجنب مواجهة
عسكرية واسعة.
وفي محاولة لتقدير الوقت الذي يمكن
أن يتحكم في تغيير أطراف الصراع توجهاتها ومواقفها، فإن إصرار نتنياهو على تمسكه
بمواقفه بعد توجيه النيابة العامة تهم الفساد وخيانة الأمانة، يدفع إلى استمرار الأزمة
السياسية في الكيان، ونحن أمام خمسة شهور على الأقل إذا تقرر المضي نحو جولة
انتخابات ثالثة، ستجبر الأطراف الأخرى على انتظار مآلاتها.
في البعد الإقليمي، فإن التوتر في
الشمال بين الكيان وإيران الأقدر على كسر معادلة شراء الوقت، وفقا للتحذيرات الإسرائيلية
والأمريكية الأخيرة من أن إيران تستعد لهجوم كبير في الشرق الأوسط، ردا على عمليات
الاستهداف والقصف المتكررة على مواقع الحلف الإيراني في سوريا.
لكن مواجهة من
هذا القبيل مرشحة ان تتّسع لتشمل أطرافاً أخرى، ما يجعلها
أكثر خطورة وأشدّ تأثيراً في البيئة الإقليمية للأمن القومي الإسرائيلي. ولعلّ هذا
هو ما عبّر عنه نائب المفتش العام الرئيس في البنتاغون، غلين فاين، عندما قال إن "القيادة
المركزية الأمريكية تشعر بالقلق من إمكانية قيام الوحدات المرتبطة بإيران بالانتقام
يوماً ما، في حال رأت أن الولايات المتحدة متواطئة في الغارات التي شنّتها إسرائيل".
تقديرات سياسة شراء الوقت بناء على
المعطيات الفلسطينية الداخلية والإسرائيلية وفي البعد الإقليمي، تشير إلى أنه من
مصلحة المقاومة الفلسطينية تأخير أي مواجهة مع الكيان، مع استمرار الضغط ببعده
الشعبي للحفاظ على مكتسبات مسيرات العودة، وزيادة التسهيلات في غزة، واستثمار حالة
الإرباك السياسي في الكيان لصالح تمتين الجبهة الداخلية الفلسطينية، استعدادا
للمرحلة القادمة التي قدم تشهد تطورات دراماتيكية في الكيان والمنطقة.
ولا
يمكن تجاهل تأثير المتغيرات في الجبهات الأخرى على الصراع الفلسطيني الإسرائيلي في
ظل التطورات السياسية والأمنية الأخيرة في السعودية واليمن وإيران والعراق ولبنان
وسوريا، بينما تحتشد قوة أمريكية على الأرض وفي البحر، حيث عبرت حاملة الطائرات
الأمريكية "يو أس أس أبراهام لينكولن" ومجموعة المدمرات والبوارج المرافقة
لها مضيق هرمز الاستراتيجي، في محاولة لطمأنة حلفاء واشنطن في الخليج والتلويح
بالقوة في وجه إيران، بينما تتموضع وتتوسع القواعد العسكرية الروسية في حركة دؤوبة
لاحتلال مساحات جديدة من الفراغ الأمريكي في المنطقة.
في
المحصلة، فإن المعطيات العسكرية والسياسية في المنطقة تشير إلى أن خيار المواجهة
على جبهة واحدة أو عدة جبهات هو الخيار الأقرب للوقوع، والجميع يتجهز للمعركة.