على خلاف العديد من التحاليل المتشائمة التي كانت ترى في
ترشيح الشيخ راشد الغنوشي لرئاسة البرلمان التونسي إرهاصا بأزمة سياسية جديدة، كنا
قد عبّرنا منذ أيام عن يقيننا بحصول الشيخ راشد على هذا المنصب. ولم يكن هذا
اليقين مردودا إلى استحضار القدرات التفاوضية غير المتنازع فيها للشيخ، ولم يكن
راجعا أيضا لمقبولية الشيخ داخل الطيف السياسي التونسي، بل كان مرد ذلك اليقين إلى
المأزق النهائي الذي بلغته مفاوضات حركة النهضة مع شريكيها المفترضين في تشكيلة
الحكومة القادمة، أي حركة الشعب والتيار الديمقراطي.
ويعلم المتتبعون للشأن التونسي أن مجال تحرّك النهضة لم
يكن يتعدى ثلاث فرضيات كبرى:
1-أن تتحالف مع حزبي التيار والشعب وتقبل بشرطهما؛ المتراوحة بين تسلم ثلاث وزارات وتعيين رئيس حكومة مستقل (وهي شروط حزب التيار الديمقراطي)، وبين التخلي عن حق النهضة في ترشيح رئيس الحكومة وتفويض هذا الحق لرئيس الجمهورية، لتتشكل ما سُمّي بـ"حكومة الرئيس" (وهو شرط حركة الشعب ذات التوجه القومي).
كان مرد ذلك اليقين إلى المأزق النهائي الذي بلغته مفاوضات حركة النهضة مع شريكيها المفترضين في تشكيلة الحكومة القادمة، أي حركة الشعب والتيار الديمقراطي
2-أن ترفض هذه الشروط (باعتبارها شروطا تعجيزية أو تُمثل انقلابا ناعما على الدستور، ولا تبشر بتشكيل سلطة قوية ومتجانسة ومحكومة بمبدأ التضامن الحكومي)، وهو ما يعني ضرورة التوجه إلى حزب قلب تونس (باعتبار استحالة التواصل مع الحزب الدستوري الحر ذي الخلفية التجمعية الاستئصالية). ولكن هذه الفرضية ذات كلفة سياسية كبيرة؛ لأنها انقلاب صريح على وعود الحركة بمحاربة الفساد. والحال، أن كل التونسيين يعرفون جيدا حجم شبهات الفساد المتعلقة بقيادات هذا الحزب بدءا برئيسه نبيل القروي.
3-أن تعلن أنها غير معنية بتشكيل الحكومة، وهو ما يعني فقدان هذا الحق الدستوري للسنوات الخمس القادمة، والأخطر من هذا ألا تتجه الأمور الى
انتخابات تشريعية مبكرة، بل إلى تقاطعات بين التيار والشعب من جهة، وقلب تونس من جهة ثانية (وهي فرضية مستبعدة ولكنها ممكنة وقابلة للاستثمار بين قواعد النهضة لتبرير عدم طرح الانتخابات التشريعية المبكرة بديلا عن التقارب مع قلب تونس).
ومن بين هذه الفرضيات الثلاث، بدا واضحا منذ ترشح الشيخ
راشد لعضوية البرلمان أن رغبته الحقيقية هي رئاسة البرلمان، وليس رئاسة الحكومة (وهو
ما بدا واضحا في الدورة 33 لمجلس الشورى التي أكدت أولوية المجلس النيابي، لـ"تنسخ"
قرارات الدورة 32 التي أكدت أولوية رئاسة الحكومة). وبصرف النظر عن مقدار
المسؤولية السياسية الذي تتحمله النهضة أو حركة الشعب والتيار الديمقراطي في فشل
المفاوضات بينهم، فقد أدى ذلك الفشل إلى التقاطع أو الالتقاء الموضوعي بين حركة
النهضة وحزب قلب تونس. ونحن نتحدث عن تقاطع أو التقاء موضوعي لنتجنب الانحياز
لموقف النهضة وقواعدها أو الانحياز لرؤية خصومهم. فالنهضة تتحدث عن التوازي بين
مساري البرلمان والحكومة، لتؤكد أنها لن تدخل في أي تحالف أو توافق سياسي موسع مع
حزب قلب تونس، بينما يرى خصومها أن التوافقات في المجلس النيابي لا يمكن أن تتم
إلا في إطار توافقات أشمل سيعكسها تشكيل الحكومة.
برفعهما سقف المطالب عاليا والتعامل مع النهضويين جميعا
بمنطق التخوين والاتهام بالفساد الماهوي (غير القابل للإصلاح)، وبمحاولتهما تفريغ
انتصار حركة النهضة من كل استتباعاته السياسية، قدمت حركة الشعب والتيار الديمقراطي
خدمة مجانية
لرئيس حركة النهضة وللموالين له في الشق التوافقي والمطبع مع المنظومة
القديمة. وقد كان بإمكان هذين الحزبين أن يُنسّبا مطالبهما وأن يعملا على استثمار
التناقضات الداخلية في حركة النهضة، وذلك بالقبول بمبدأ أن تترأس الحركة الحكومة
شريطة ألا يكون المرشح توافقيا أو معروفا بخضوعه لسلطة الشيخ راشد، بالإضافة إلى
طلب ضمانات من مثل لجنة متابعة ومراقبة لعمل الحكومة ممثلة لمختلف
الأحزاب
المشاركة فيها، أو حتى مطعّمة بشخصيات وطنية مستقلة.
برفعهما سقف المطالب عاليا والتعامل مع النهضويين جميعا بمنطق التخوين والاتهام بالفساد الماهوي، وبمحاولتهما تفريغ انتصار حركة النهضة من كل استتباعاته السياسية، قدمت حركة الشعب والتيار الديمقراطي خدمة مجانية لرئيس حركة النهضة وللموالين له في الشق التوافقي والمطبع مع المنظومة القديمة
ولكنّ إصرار حركة الشعب وحزب التيار الديمقراطي على
استهداف النهضة كلها (دون تمييز بين
أجنحتها) ساعد رئيس الحركة على الانتقال من "الخطة أ" (أولوية تشكيل
الحكومة بقيادة نهضوية) إلى "الخطة ب" (أولوية العمل البرلماني باعتباره
السلطة الأهم في البلاد)، وهو انتقال مكّنه من تحقيق غايتين:
1-مواصلة سياسة التوافق مع الواجهة السياسية الأبرز للمنظومة القديمة (قلب تونس)، وتسويق ذلك باعتباره إكراها أو ضرورة ألجأته إليه مزايدات "القوى الثورية" الرافضة للتخلي عن مطالبها التعجيزية أو الانقلابية. ولا شك في أن هذه الحجج سترضي جزءا كبيرا من قواعد النهضة بحكم استحكام الخلاف الأيديولوجي مع التيار والشعب (في القضايا الهووية وفي بعض القضايا الخارجية خاصة مع حركة الشعب).
2-قبول النهضة بشخصية مستقلة لرئاسة الحكومة وإظهار ذلك في صورة التنازل خدمة للمصلحة الوطنية واتقاء لشبهة "التغول" التي يعتمدها الخصوم، منعا لحركة من السيطرة على رئاسة الحكومة ورئاسة البرلمان. ولكنّ الأهمية السياسية لهذا القرار توجد في الداخل النهضوي، فالشيخ راشد سيُضعف بهذا الخيار كل خصومه المحتملين داخل الحركة خلال المؤتمر القادم، ذلك المؤتمر الذي تتواتر الأخبار عن نية الشيخ تقديم ترشحه فيه بعد تغيير القانون الداخلي للحركة.
بحصوله على 123 صوتا تمكن الشيخ راشد من الفوز برئاسة
البرلمان، وهو فوز سياسي ملتبس من جهة خلفياته (أي طبيعة التقاطعات أو الترضيات
التي حكمته)، ومن جهة تداعياته على مسار تشكيل الحكومة. فوصول الشيخ إلى سدة
المجلس صاحبه وصول مرشحة قلب تونس السيدة سميرة الشواشي إلى منصب
النائب الأول لرئيس مجلس النواب.
ورغم إصرار قيادات النهضة على مسألة توازي المسارين
النيابي والحكومي، يبدو من الصعب تصديق أنّ سقف التقاطع بين النهضة وقلب تونس كان
مجرد وصول السيدة سميرة الشواشي إلى نيابة رئيس المجلس. ومهما كان المرشح المستقل
الذي
سيعرض رئيس حركة النهضة اسمه يوم الجمعة (15 تشرين الثاني/ نوفمبر 2019) على
رئيس الجمهورية، فإن حقيقة التقاطع بين النهضة وقلب تونس ستَظهر لا محالة عند
تشكيل الحكومة، كما ستَظهر أيضا القوى السياسية التي ستشكل المعارضة، خاصة بعد رفض
حزب تحيا تونس (حزب رئيس الوزراء يوسف الشاهد) التصويت للشيخ راشد لرئاسة البرلمان
ليلتحق موضوعيا بحزب التيار وحركة الشعب. فهل سنشهد ميلاد قوى معارضة جديدة، أم إن
تشكيل الحكومة سيكون فعلا مسارا موازيا للمسار البرلماني، مع ما يعنيه ذلك من
إمكانية التحاق حزب تحيا تونس (أو حتى التيار الديمقراطي وحركة الشعب) بتشكيلة
الحكومة المنتظرة؟