الكتاب: عسكر سوريا... وأحزابها
الكاتب: فؤاد مطر،
تقديم: رياض نجيب الريّس
الناشر: الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت، الطبعة الأولى، أكتوبر2019،
عدد الصفحات 296 من الحجم الوسط
مع صعود الهيمنة الأمريكية على النظام الرأسمالي العالمي وحلولها محل دول الاستعمار القديم، برزت في أطراف النظام العالمي، ظاهرتان متلازمتان: أولهما: صعود الفئات الوسطى في المناخ "الليبرالي" الذي أعقب الاستقلال، ودخول
الجيش في السياسة وصولاً إلى عسكرة المجتمع. وترتبط هاتان الظاهرتان بنمو دور الدولة في المراكز الرأسمالية.
ولذلك يمكن الاتفاق مع القائلين بتحول نمط الدولة البيروقراطية التي ظهرت في أواسط القرن الماضي إلى دولة تسلطية في البلدان المستقلة حديثاً، أي أن الجذر السياسي للدولة التسلطية، يرجع إلى جذور تلك البيروقراطية الموروثة عن المرحلة الكولونيالية.
والأسباب التي سهلت صعود الفئات الوسطى وهيمنة العسكر هي الأتية:
أولاً: هشاشة القاعدة الاجتماعية للتحالف الحاكم وهو تحالف التجار والملاكين الكبار، والوجهاء التقليديين، والأعيان وبعض من النخب المثقفة .
ثانياً: تفرد القوى الحاكمة في خياراتها الاجتماعية والسياسية، فقد كانت المحافظة على البنى التقليدية واللعب على توازناتها من جهة، وتطمح إلى السير في مشروع تحديثي مع الغرب من جهة أخرى، بحكم مصالحها الموضوعية.
ثالثاً: عجز هذه القوى عن الحراك الاجتماعي وتحقيق التوازن بين قوى المجتمع التي حركتها عملية نزع الاستعمار، وكانت ذكريات المقاومة الوطنية ما زالت طازجة في ذاكرتها.
رابعاً: إخفاق تحالف الحاكم في تحديث بنى المجتمع وإطلاق سيروة نمو اجتماعي ـ اقتصادي مناسب تجمع حوله قوى الشعب.
خامساً: دفع مقتضيات الحفاظ على النظام إلى تقوية الجيش تحت عناوين الدفاع عن الوطن، وتحرير الأراضي المحتلة، وتكريس الأحزاب السياسية، لتسويغ توجهات السلطة وتبريرها. إلا أن هاتين القوتين المؤسسة العسكرية من جهة، وأبناء الطبقة الوسطى الطامحين للإرتقاء، الاجتماعي والمشاركة السياسية من جهة أخرى، كانا البديل الضروري لسلطة ضعيفة ودولة مركزية عاجزة عن تحرير قوى المجتمع أو لجمها، والتغلغل في بنيانها، وربما كان هذا الدرس، أهم ما تعلمه ورثتها.
في هذا الكتاب التوثيقي الذي يحمل العنوان "عسكر سوريا... و أحزابها" للكاتب و الصحافي المشهور فؤاد مطر، والمتكون من 296 صفحة من الحجم الوسط، والمليء بالوثائق التاريخية المهمة، يعتبره الكاتب والصحافي السوري الكبير رياض نجيب الريّس "محطة صغيرة من محطات التاريخ السوري الحديث، ومحطة لم توثق كما يجب، بالرغم من أن أرشيف العالم قد فتح أمام المؤرخين والباحثين.
وما قام به فؤاد مطر، علامة مميزة لموضوع كان سبباً أساسياً في ما وصل إليه العالم العربي اليوم، واستمرت تداعياته عبر أكثر من نصف قرن على أحداث هذه الأمة.
"أما، ما بيني وبين فؤاد مطر إلى جانب الود والصداقة والزمالة، فإننا عملنا مع غسان تويني وعاصرنا الصحافة في نهضتها، وشهدنا ذبولها، ونعيش اليوم اندثارها. كما كانت لكل منا هجرة إلى لندن، حيث أدى كل منا الواجب العملي والمعرفي من خلال تجارب كانت بمثابة إضاءات فكرية وإعلامية يعتز كل منا ونحن نتذكرها بما أقدم عليه ونحمد الله أننا كنا مثابرين وصابرين ومتحملين أمزجة المتحاملين ومكائدهم" .
"كم واحداً منا نحن صحافيي هذا الزمان العربي الرديء يملك دأب فؤاد مطر وعزيمته وجهده في مختلف مجالات اهتماماته العربية ورفده المكتبة العربية حتى الآن بثلاثة وثلاثين كتاباً تجمع مضامينها بين التحليل والتوثيق لحقبة عربية مبهرة يحزن المرء مثل حالنا كصحافيين جابوا الديار العربية من أقصاها إلى أقصاها، على خسوفها. هناك قول إنكليزي، وأنا وفؤاد في الثمانين من العمر، أن "لا وطن للمسنين" من أمثالنا. وأنا أقول: نحن وطننا القلم والورق والذاكرة قبل أن تبهت ألوانها وتزداد ثقوبها"، (من تقديم رياض نجيب الريّس، ص 17 من الكتاب).
انقلاب حسني الزعيم في سوريا العام 1949
تسلم العسكر مقاليد السلطة الفعلية في البلاد، أول تدخل للجيش في السياسة في المنطقة العربية، وشكل بذلك سابقة أو مثالا يحتذى به على الصعيد العربي. وكان الزعيم ضابطاً في الجيش السوري من أصل كردي، تخرج من الأكاديمية الحربية العثمانية في اسطنبول، واشترك في الثورة العربية على الأتراك، ثم التحق بالقوات الفرنسية الخاصة، وحارب مع قوات فيشي في سوريا إبان الحرب العالمية الثانية، وقبض عليه عقب انتصار الحلفاء، وقدم للمحاكمة وحكم عليه بالأشغال الشاقة لمدة عشر سنوات العام 1942، ثم أطلق سراحه عقب نهاية الحرب العالمية الثانية من قبل القوتلي، ليعيده إلى الجندية كضابط في الجيش الوطني السوري المتشكل حديثاً.
هناك مجموعة من الظروف السياسية ـ التاريخية العربية والدولية أحاطت بهذا الانقلاب العسكري، يمكن تصنيفها على النحو التالي: أن من أهم الأسباب التي دفعت بالجيش للقيام بانقلابات عسكرية هي الهزيمة العسكرية للجيوش العربية في حرب فلسطين العام 1948، وخيانة السلطات الإقطاعية والبرجوازية الكمبرادورية في ذلك الوقت، وعدم تهيئتها ودعمها للجيش.
فالجيوش العربية كانت آنذاك بقايا جيوش كولونيالية، تفتقر إلى خبرة قتالية مناسبة، فضلاً عن أن معنوياتها لم تكن عالية، وفساد ضباطها كان ظاهرة ملفتة، ناهيك عن ارتهانها للغرب، بخاصة انكلترا، في ما يتعلق بالسلاح والذخيرة.
وقد ولدت الهزيمة العربية في ظل سيادة حالة مزرية من التفسخ والفساد والإنحلال تعيشها الطبقة السياسية الحاكمة في العديد من البلدان العربية مثل سوريا ومصر والأردن والعراق، وكانت اللعبة السياسية والدستورية التي تمارسها هذه الطبقة السياسية لا تزال في أبعادها التقليدية، فضلاً عن أن سيادة أعضاء الحكومة. ولهذا السبب لقي انقلاب حسني الزعيم كل ترحيب من عامة الشعب، باعتباره فاتحاً لعهد جديد في الحياة السياسية السورية. وقد أعلن فارس الخوري، السياسي السوري المحنك، "أن الانقلاب قد كفل للرجال الخيرين عصراً من الاستقرار الدائم طالما تاقوا إليه، يقوم على مبادئ العدالة والعمل الطيب مع الدعم الشعبي للحكومة والأمل يملأ فؤادي أن الزعيم سيتقدم بحزم وسلام حتى يقيم حياة دستورية وحكماً جمهورياً يتفق وإرادة الأمة".
يقول الكاتب فؤاد مطر: "ثلاثة جنرالات يمكن اعتبارهم الشتلة التي أنتجت شجرة وأثمرت صباح يوم الأربعاء 30 آذار (مارس) 1949 فوجئ سكان دمشق بمظاهر عسكرية غير مألوفة. ففي الساحات العامة رابطت بعض الوحدات. وعلى مداخل البرلمان ورئاسة الوزراء ومديرية الشرطة تواجدت، ظن الناس للوهلة الأولى أن هذه الإجراءات تتعلق بقضية محاكمة المقدم في الجيش السوري فؤاد مردم بك وتوجيه التهمة إليه لعلاقته بشبكة تجسس صهيونية وقيامه بأعمال تسببت في وصول سلاح اشترته وزارة الدفاع السورية، وبدلاً من وصوله إلى سوريا فإنه وصل بمعرفته إلى تل أبيب وادعى بأن المركب الذي ينقل السلاح غرق في مياه اليونان. وفي حينه كانت مثل هذه القضايا مثيرة جداً وذات تأثير بالغ في نفوس المواطنين الذين يعتبرون قضية فلسطين الأولى والأخيرة.
واستمر أبناء دمشق وبقية المحافظات السورية على حيرتهم بضع ساعات، إلى أن بدأ جنود بتعليق أوراق على بعض جدران الشوارع تحمل نص بلاغ إلى الشعب السوري يحمل توقيع "القيادة العامة للجيش والقوى المسلحة". وكان هذا البلاغ هو الأول عن حدوث انقلاب عسكري. ثم بثت إذاعة دمشق نص البلاغ في نشرتها الإخبارية فعرف السوريون بأمر الإنقلاب"(ص36 من الكتاب).
انتشرت معلومات حول الحركة الإنقلابية مفادها أن الحركة بدأت على النحو الآتي: في الثانية والنصف من فجر الأربعاء (30 آذار / مارس 1949) توجهت قوة من شرطة الجيش إلى منزل رئيس الجمهورية آنذاك شكري القوتلي وأحاطت بالمنزل ثم جردت رجال الحرس من أفراد الدرك وغيرهم القائمين على حراسة منزل الرئيس من أسلحتهم، ثم نقلت الرئيس القوتلي في سيارة عسكرية من منزله إلى المستشفى العسكري في المزة.
فقد قرر المجلس الحربي الأعلى للقيادة العامة للجيش السوري إصدار المرسوم المرفق ودمتم.
ويحمل المرسوم الرقم 2 وفي ما يأتي نصه:
"إن الزعيم القائد العام للجيش والقوى المسلحة، استناداً على قرار المجلس الحربي الأعلى للجمهورية السورية، واستناداً على الأمر العسكري رقم 2 وتاريخ 31/3/949 يرسم ما يلي:
مادة 1 ـ يحل المجلس النيابي السوري وتشكل لجنة دستورية لوضع مشروع دستور للبلاد وقانون للإنتخابات النيابية العامة بالسرعة الممكنة.
مادة 2 ـ تعين اللجنة الدستورية المذكورة في المادة السابقة بمرسوم يصدر عن قيادة الجيش والقوى المسلحة.
مادة 3 ـ يعين موعد الانتخابات النيابية فور انتهاء اللجنة الدستورية من مهمتها المبينة في المادة الأولى من هذا المرسوم.
مادة 4 ـ ينشر هذا المرسوم ويبلغ لمن يلزم.
وبانتهاء، اليوم الثاني للانقلاب أصدر الزعيم بلاغاً سياسياً أعلن فيه تمسكه "بحقوق الإنسان وسعيه لبث الروح الديمقراطية بين أبناء الشعب، لأن الشعب كان يشكو من انهيار الفئة الحاكمة آنذاك بهذه المفاهيم المثلى. وقال حسنى الزعيم لأعضاء وفد صحافي لبناني زاره في ذلك الوقت، أيضاً "سيكون الحكم في سوريا مثالياً تقتدي به مختلف الأقطار العربية؟ ووعد بإفساح المجال لانتخاب جمعية تأسيسية تتولى وضع دستور جديد للبلاد " يتضمن كل مبادئ التقدم والرقي والازدهار".
قبل الاستفتاء.. الزعيم يعلن نفسه أنه بات رئيسًا
لم ينتظر الزعيم حسني الزعيم يوم الإستفتاء لكي يتم الإعلان عن أنه بات رئيس جمهورية سوريا وإنما حدث الإعلان عن ذلك قبْل يوم من الاستفتاء. وتسلم الزعيم من المحافظ إيصالاً رسمياً بقبول ترشيحه. وفي السابعة والدقيقة الخامسة وضعت محافظة العاصمة ضبطاً أعلنت فيه ترشيحه، وأبرقت إلى وزارة الداخلية تُبلغها ما جاء في الضبط فرفعت الداخلية البرقية إلى رئاسة مجلس الوزراء، وأبلغت المحافظة بعد ذلك وزارة الداخلية بأن أحداً لم يتقدم لترشيح نفسه لرئاسة الجمهورية من سكان المحافظة رغم مضي مدة الترشيح القانونية، واتصلت بعد ذلك المحافظات السورية بالمقامات الرسمية تعلن أن أحداً لم يتقدم بترشيح نفسه فيها. وبذلك أصبح الزعيم حسني الزعيم المرشح الوحيد للرئاسة ويُعتبر قانونياً الفائز بالتزكية لرئاسة الجمهورية.
بعد أن نصب حسني الزعيم نفسه رئيساً للدولة، يتمتع بكافة الصلاحيات الممنوحة لرئيس الدولة، بدأ بتصفية المؤسسات الدستورية في البلاد، فقرر حل البرلمان، وذلك في اليوم الثاني من الانقلاب ومع توليه السلطتين التشريعية والتنفيذية، بدأ الزعيم يمارس سياسة القمع ضد الصحافة خلال إصداره قراراً يخول له حق إلغاء امتياز كل جريدة يومية أو مجلة أو دورية يرى في وجودها ما يضر المصلحة القائمة، مثلما لم يحدد شيئاً عن كيفية إعادة الحياة الدستورية إلى البلاد أو عن إقامة ديمقراطية صحيحة. وعلى الصعيد السياسي قام الزعيم بحل الأحزاب السياسية جميعها، وقمع الحزب الشيوعي نور.
وهكذا فقد الزعيم في غضون أشهر ثلاثة معظم شعبيته، وأثار عداء مختلف فئات المواطنين، فسياسته الموالية للغرب ألبت عليه الفئة المحايدة، وإصلاحاته العلمانية جلبت عليه سخط الزعماء الدينيين وأتباعهم من المدنيين، وأساليبه الأوتوقراطية قوضت آمال الليبيراليين، وسياسته الموالية لمصر أفقدته تأييد ومساندة الفئات الوحدوية العربية من ناحية والموالية للهاشميين من ناحية أخرى. إن محاولات الزعيم في ميداني الإصلاح المالي الحكومي والزراعي أوقعت الرعب في قلوب الطبقات الإقطاعية والتجارية النافذة التي تعرضت مصالحها الاستثمارية للخطر، أما عامة الناس الذين توقعوا كبرى الفوائد فأصابهم اليأس حين لم تتحقق الوعود الكبيرة التي قطعت.
يقول فؤاد مطر: "بعد تسلُّم حسني الزعيم رسمياً منصب رئاسة الجمهورية وجد الرئيس السابق شكري القوتلي، الذي تم وضْعه قيد الإقامة الجبرية في منزله، أنه من الأكرم له أن يغادر البلاد مادام استقر رأي السوريين على الحُكْم الإنقلابي غير عابئين بالرئيس الأول لسوريا المستقلة.
وفي أعقاب اتصالات جرت في شأن وضْع القوتلي قرر أن يغادر الرئيس السابق البلاد مع عائلته وأن يتم توديعه رسمياً. وكان ذلك تصرفاً حكيماً من قبل الرئيس حسني الزعيم وتفكيراً عاقلاً من جانب مستشاريه الذين أخذ بنصيحتهم.
وفي الثانية عشرة من ظُهر يوم الإثنين 27 حزيران (يونيو) 1949 كان الرئيس القوتلي ومعه زوجته وإبنته وإبنه (وهما صغيران) يصعدون إلى الطائرة التابعة للخطوط الجوية الإسكندنافية المتجهة إلى جنيف عن طريق روما. وقد جرى له وداع رسمي في مطار دمشق شارك فيه رئيس الوزراء الدكتور محسن البرازي والعقيد بهيج كلاَّس ممثِّلاً للرئيس حسني الزعيم. كما أن كتيبة من الشرطة العسكرية برئاسة ضابط أدت له التحية في المطار. وشارك في التوديع أصدقاء الرئيس القوتلي الذين رافقوه من منزله بعدما تم رفْع الحظر عنه والسماح لهم بزيارة الرئيس السابق والسلام عليه. وعندما حاول رجال الصحافة في جنيف سؤاله عن خططه المستقبلية وهل سيواصل العمل السياسي اكتفى بالرد أنه جاء إلى سويسرا (الأقرب لفظاً إلى سوريا) للراحة وأنه اصطحب معه قرينته ونجليْه أما باقي أفراد العائلة فما زالوا في دمشق" (ص65 من الكتاب).
ما علاقة الانقلاب العسكري بالولايات المتحدة؟
عقب نهاية الحرب العالمية الثانية، أخذت الولايات المتحدة الأمريكية تعمل على ملء فراغات القوة التي خلفها الاستعمارالأوروبي وراءه في العالم الثالث، لكي تمنع الاتحاد السوفييتي "من اغتنام الفرصة لتوسيع مجال نفوذه العالمي"، وهكذا أصبح ملء فراغات القوة الموضوع الرئيسي لدى الولايات المتحدة في صراعها مع الاتحاد السوفييتي، لتحقيق هيمنتها العالمية، وتوحيد العالم الثالث تحت راية الأمبراطورية الأمريكية، في ظل مراعاة الأمن الأمريكي ومنذ نهاية الحرب العالمية الثانية اصبح العالم الثالث يشكل جبهة الصراع الرئيسية في الاستراتيجية الاقتصادية والسياسية، والعسكرية، والجغرافيا السياسية بين النظام الرأسمالي العالمي بزعامة الأمبريالية الأمريكية والاتحاد السوفييتي.
ثم إنَّ الهيمنة الأمريكية كانت تُنَصِّبُ حكومات عسكرية موالية لها في بلدان العالم الثالث، في حين أن الأمبرياليتين الفرنسية والبريطانية تحميان مصالحهما بحضورهما العسكري المباشر، أما الأمريكان الذين يعملون تحت ظل مبادئ الرئيس ويلسون "النقاط الأربع عشرة" التي ربما تكون قد لخصت على أفضل نحو ما يمكن لأخلاق الديمقراطية القومية النزعة المنبثقة من التراث الليبيرالي الأوروبي ـ الأمريكي أن تقدمه للعالم، حيث أن جوهر هذه النقاط الأربع عشرة، هو مزيج من إرث الحريات الدستورية الدينية الانكليزية، وللثورة الأمريكية المحررة من الوضعية الكولونيالية ـ لم يكونوا يرغبون في إرسال جيوشهم خارج الولايات المتحدة، والقيام بمغامرات عسكرية. لأنَّ فخ التبعية للغرب قد أحكم بحكم العلاقة البنيوية الكولونيالية، وأصبحت أمراً ناجزاً، ولم يكن عنده إمكانية التملص من التبعية للاقتصاد الغربي لا سيما أن نزعة الاستعمار أيقظت مخاوف كل واحدة من هذه البلدان المستقلة من الأخرى، فسارعت إلى عملية بناء جيوش عمقت حاجتها إلى الغرب.
وكانت الولايات المتحدة آنذاك تلعب دور زعيمة النظام الرأسمالي العالمي، إذ لم تكن مصالحها القومية تبتعد كثيراً عن مصالح الدول الرأسمالية، لكن أهم من هذا كله أن الولايات المتحدة قامت سياستها في الأصل على التنكر للمبادئ الليبرالية التي تم التشديد عليها في الخطاب السياسي الأمريكي. فالمجتمع الأمريكي وعلاقاته الداخلية لم تكن محصلة عصر أنوار وسيرورة "لبرلة" المجتمع، وتثبيت القيم الإنسانية والديمقراطية في بنيانه. وتحت هذه الأسباب جميعها يقبع العامل الاقتصادي المتمثل في تطور الرأسمالية ذاتها، وتحولها إلى نظام عالمي، ونهم الأمبريالية الأمريكية المنفلت من عقاله نحو إعادة تقسيم مناطق النفوذ في العالم عامة، والشرق الأوسط بخاصة، كانت مؤامرة الاتفاق مع "شركة التابلين الأمريكية" حول مرور أنابيب النفط الآتية من السعودية إلى البحر المتوسط عبر سوريا، وشركة نفط العراق (شركة خطوط الشرق الأوسط) التي تأخر التصديق عليهما بسبب الاستنكار العام في سوريا، ورفض المعارضة الوطنية "اتفاقية التابلاين"، قد شكلت سبباً رئيسياً ثانياً ومهماً في استغلال المخابرات المركزية الأمريكية حدة التوتر بين الحكومة المدنية والجيش و"التهجمات الشنيعة والمتكررة على الجيش "داخل البرلمان وخارجه، وذلك في أعقاب توقيف بعض الضباط بتهمة الاختلاس والفساد، لكي تدفع بقائد الجيش حسني الزعيم للقيام بانقلاب عسكري تحت نفس الشعارات في ذلك الوقت "الخراب والغوغائية والمنازعات والعجز والفساد والخيانه"، التي اتسمت بها الطبقة الاقطاعية ـ البرجوازية الحاكمة، والأحزاب التقليدية في هزيمة حرب فلسطين.
وإن الجيش "اضطر إلى تولي السلطة بصورة مؤقتة ودون أن تكون لديه الرغبة في البقاء فيها"، وإن الهدف من هذا العمل كان فقط "التحضير لإقامة نظام ديمقراطي حقاً." وأكد الجيش رغبته في "تحقيق العدالة الاجتماعية، وإعادة النظر في توزيع الأراضي، ووضع قانون يحدد الثروات الكبيرة، وأخيراً العمل على رفع مستوى الطبقات الشعبية".