الفارابي
مما لا شك فيه أن الفارابي تأثر بالمدينة الفاضلة لدى أفلاطون، لكن السياق التاريخي الذي دفع أفلاطون للحديث عن المدينة الفاضلة يختلف تماما عن السياق التاريخي الذي كتب فيه الفارابي.
لا يمكن قراءة كتاب "آراء أهل المدينة الفاضلة" (الذي حققه أول مرة المستشرق فريدريك ديترصي عام 1895، ثم كانت الطبعة العربية له في القاهرة عام 1905) بمعزل عن السيرورة السياسية ـ الاجتماعية ـ الدينية التي عاش الفارابي في ظلها.
بعبارة أخرى، لا يمكن فهم ما أراده الفارابي، بالاكتفاء بقراءة النص معزولا عن المضامين الأيديولوجية المستترة، أي أن الفارابي وضع البناء الميتافيزيقي في خدمة النظام السياسي الاجتماعي.
ولد أبو نصر محمد بن محمد بن أوزلغ بن طرخان الفارابي 872 ـ 950 م في وسيج من مدن فاراب، ضمن ولاية تقع وراء نهر سيحون (سرداريا) في أوزبكستان الحالية.
ترك الفارابي مدينته وهو صغير السن طلبا للعلم، فذهب إلى بغداد وتتلمذ فيها على يد أبي بشر متى 870 ـ 940 م، وكان مسيحيا من السريان النساطرة ومن مترجمي الكتب المنطقية وشارحيها.
ارتحل بعد ذلك إلى حران، فتتلمذ فيها على يد يوحنا بن حيلان، قبل أن ينتقل إلى بلاط سيف الدولة الحمداني في حلب، ليتنقل بينها وبين دمشق وعسقلان، إلى أن قتل على يد مجموعة من اللصوص.
ضعف الخلافة وفسادها في بغداد كانت سببا وراء مغادرة الفارابي للمدينة والتوجه إلى حلب، حيث سيف الدولة، على أمل إيجاد مدينة أفضل، وفي هذا يقول الفارابي:
حُرِّم على الفـاضل من الناس المقام
فـــي السياسات الفـــاسدة، ووجب
عليه الهجرة إلـــى المدن الفــــاضلة
إن كـــان لهــــا وجـــــود بالفعل، وإن
كانت معدومة، فالفـــاضل غريب في
الــــــدنيا ورديء العيش، المـوت خير
له من الحياة.
وإذا كان الفارابي يتفق مع أفلاطون في البحث عن المدن المثالية، إلا أنه يختلف عنه في أنه جعل المدينة الفاضلة عالمية من حيث إنسانيتها، فهي ليست محصورة بالبولس اليوناني، ومن هنا، لم يكن في مدينة الفارابي ذلك التمييز بين الناس إلى طبقات، فالمجتمع عنده كل واحد متماسك الأجزاء.
عاصر الفارابي مرحلة انحلال الخلافة العباسية، من حكم المعتضد 857 ـ 902 م إلى حكم المطيع 914 ـ 974 م، وفي هذه الفترة انتشرت الفتن والثورات بتأثير عوامل دينية وثقافية وشعبوية.
يقول محمد عابد الجابري، إن تطور الدولة الإسلامية أدى إلى نشوء قوى اجتماعية جديدة أخذت تمسك شيئا فشيئا بحركة الاقتصاد، مع ما رافق ذلك من اختلاف الآراء والأهواء والملل والنحل، الأمر الذي كان يهدد الخلافة بالتحلل.
وفعلا، شهد الفارابي الثورة المضادة التي حدثت في عهد المتوكل، واندلاع ثورة الزنج، واستقلال كثير من الأمراء بإماراتهم.
وكان المجتمع الإسلامي تتناحره قوى أيديولوجية مختلفة، وفي مقدمها التيار الديني مقابل التيار العقلي، وكان التيار الديني مؤلف من قسمين: قسم أخذ بالنص فقط ورفض الفلسفة، وقسم آخر رضي بالفلسفة شرط أن تكون خادمة للدين (الأشاعرة، الماتريدية)، أم التيار العقلي المقابل، فقد كان هدفه التوفيق بين الدين والفلسفة.
ويمثل الفارابي أول تجربة إسلامية حقيقية في هذا المجال، وليست المدينة الفاضلة إلا جزءا من مشروعه التوفيقي الكبير، الذي يبدأ بنظرية الفيض، ثم محاولته التوفيق بين أرسطو وأفلاطون، وانتهاء بالمدينة الفاضلة.
المدينة الفاضلة
يشبه الفارابي المدينة الفاضلة بالبدن التام الذي تتعاون أعضاؤه كلها على اتمام حياة الحيوان، وعلى حفظها عليه، وكما أن الأعضاء متفاوتة من حيث الأهمية، كذلك أجزاء المدينة، ففيها رئيس وفيها هيئات أخرى أقل أهمية.
ويمكن تقسيم المدينة إلى ثلاثة أقسام:
1ـ الفلاسفة أو الحكماء الذين يعرفون طبيعة الأشياء بالأدلة البرهانية.
2ـ أتباع الفلاسفة الذين يعرفون طبيعة الأشياء عن طريق الأدلة البرهانية التي يقدمها الفلاسفة.
3ـ المواطنون الذين يعرفون طبيعة الأشياء عن طريق التشبيهات.
يقول الفارابي:
الرئاسة تكـــون بشيئين: أحدهما أن
يكـــون بالفطرة والطبع معــدا لهــــا،
والثانـــي بالهيئة والملكــة الإراديــة،
الرئيس الأول فــي جنس لا يمكن أن
يرأسه شـــيء من ذلك الجنس، وأن
ذلك الإنســـان يكون إنســـانا قــــــد
استكمل فصار عقلا ومعقولا بالفعل.
رئيس المدينة هو السبب الرئيسي في حصول المدينة على الملكات الإرادية، فنسبته إلى سائر أجزاء المدينة، عند الفارابي، كنسبة السبب الأول (الله) إلى سائر الموجودات.
وهنا، يخرج الفارابي كما يقول عبد الرحمن بدوي، عن وصف الرئيس الإنسان، إلى وصف الرئيس الذي هو فوق الإنسان، فرئيس المدينة بالنسبة للفارابي إنسانا يوحي إليه الله بتوسط العقل الفعال، ويكون بما يفيض على عقله المنفعل حكيما فيلسوفا، وبما يفيض منه إلى قوته المتخيلة نبيا منذرا بما سيكون ومخبرا بما هو الآتي من الحوادث.
ويجب على رئيس المدينة أن يتحلى بالصفات التالية:
أن يكون تام الأعضاء، وجيد الفهم والتصور لكل ما يقال، جيد الحفظ، وجيد الفطنة، ويمتلك حسن العبارة، محبا للتعليم، غير شره على المأكول والمشروب والمنكوح، محبا للصدق وأهله، كبير النفس محبا للكرامة، وأن يكون المال هينا عنده، محبا للعدل، قوي العزيمة.
ومع انتهاء عصر النبوة، لا يبقى سوى الفيلسوف كي يكون رئيسا للمدينة الفاضلة، لكن في حال تعذر وجود هذا الفيلسوف، فما العمل؟
الجواب هو، ضرورة أن يتصف الرئيس الثاني ببعض الصفات، مثل:
ـ الحكمة.
ـ عالم حافظ للشرائع والسنن التي دبرها الفيلسوف أو النبي للمدينة.
ـ القدرة على الاستنباط فيما لا يحفظ عن السلف فيه شريعة ويكون فيما يستنبط من ذلك محتذيا حذو الأولين.
ـ القدرة على استنباط لما سبيله أن يعرف في وقت من الأوقات الحاضرة من الأمور والحوادث، ويكون متحريا فيما يستنبطه من ذلك صلاح المدينة.
ـ أن يكون له جودة تأت ببدنه في مباشرة أعمال الحرب.
وإذا لم يوجد إنسان تجتمع فيه هذه الصفات، ووجد بدلا من ذلك اثنان أحدهما حكيم والثاني فيه الصفات الأخرى كلها ما عدا الحكمة، فوجب أن يكون هذين الشخصين هما رئيسا المدينة.
بطبيعة الحال، يشير الفارابي هنا إلى واقع الخلافة في عصره، من حيث أن الخلافة ـ ليس بالضرورة الخليفة ذاته ـ تمتلك الصفات السابقة التي ذكرناها.
وقد جانب جميل صليبا الصواب حين اعتبر أن فكرة تعدد الحكام في حال عدم توفر الصفات المطلوبة في شخص واحد، إنما هي توصيف للواقع السياسي الذي عاصره الفارابي، حيث كانت السلطة الدينية في زمانه منحصرة في الخليفة المقيم ببغداد، أما السلطة الزمنية فهي بيد الأمراء المستقلين.
ولا تعرف المدينة الفاضلة على التمام، إلا إذا قورنت بالمدن المضادة لها، وهي:
المدينة الجاهلة: التي لم يعرف أهلها السعادة ولا خطرت ببالهم، حتى وإن أرشدوا إليها لم يقيموها، لأنهم ظنوا أن ملذات الحياة هي الخيرات.
ورغم أن أقسام هذه المدينة متعددة إلى ستة مدن، إلا أن رؤساءها يمتازون بالأهواء الشخصية والأنانية.
المدينة الفاسقة: تكون آراؤها هي آراء أهل المدينة الفاضلة، لكن أفعال أهلها كأفعال أهل المدينة الجاهلة.
المدينة المبًدلة: كانت آراؤها وأفعالها في القديم آراء المدينة الفاضلة وأفعالها، غير أنها تبدلت فدخلت فيها آراء فاسدة فاستحالت أفعالها إلى أفعال فاسدة ولذلك يهلكون مثل أهل المدينة الجاهلة.
المدينة الضالة: كانت تقر بالسعادة الأخروية وتعتقد بالله والخلق الفيضي والعقل الفعال، لكن اعتقادها خاطئ وفاسد، بسبب رئيسهم الذي أضلهم.
خاتمة
كانت الإشكالية السياسية عند الفارابي هي الارتفاع بالمجتمع الإسلامي من الخلافات الدينية الثقافية الاجتماعية إلى مستوى الوحدة والانسجام، وكان هذا الأمر يتطلب رئيسا يكون بمثابة النبي أو الفيلسوف، وفي حال تعذر ذلك، يحكم الرؤساء المتمتعين بصفات معينة.
إشكالية الفارابي هنا، إشكالية سياسية ضمن فضاء إسلامي، فبخلاف أفلاطون الذي أقام جمهوريته على العقل المحض، أقام الفارابي مدينته على العقل المسلم.
إن هذا العقل المسلم، لهو مزيج من الفلسفة اليونانية ومن الثقافة الإسلامية، لكن، في حين يذهب حسن العبيدي إلى أن الفارابي قدم نصا فلسفيا سياسيا ينطلق من الميتافيزيقا الى الإنسان والمجتمع والدولة، ذهب الجابري إلى عكس ذلك، فقال إن مشروع التنظيم الاجتماعي في المدينة الفاضلة، هو الذي أوحى بالنظام الهرمي على الصعيد الميتافيزيقي.
تعرّض الفارابي لهجوم عنيف من أبو حامد الغزالي في كتابه "تهافت الفلاسفة"، فبدعه وكفره في مسائل كثيرة، خصوصا ما جاء في القسم الأول من كتاب الفارابي "آراء أهل المدينة الفاضلة" حول الفيض والتمييز بين الحكمة والشريعة.
ومع ذلك، فقد اعتبر الكثيرون أن مكانة الفارابي تناظر مكانة سقراط وأفلاطون في الفلسفة اليونانية، وقد ألهمت أعماله شخصيات هامة مثل ابن سينا وابن ميمون وابن رشد.
ويذهب الباحث الإيطالي ماسيمو كامبانيني إلى أن الفارابي هو رائد اللاهوت السياسي الإسلامي بالتحديد الذي عرفه كارل شميت.
حسين عبد العزيز
كاتب وإعلامي سوري