(1)
شاهده قادما من بعيد، فتحرك بخطوات محسوبة ليتخذ موقعا مناسبا للانقضاض، ولما اقترب، رفع جمولته على ظهره واندفع بكل قوته، وفي الطريق دفع سيدة فأوقعها على الرصيف، وأفزع طفلة صغيرة كانت في يد أمها، واشتبك بالشتائم والنظرات المتوعدة مع رجال وشباب كانوا يعترضون طريقه ويتسابقون معه لنفس الهدف المشروع: الفوز بمقعد في الباص.
(2)
بعد أن ألقى الجوال على سلم الأتوبيس وتزاحم بين الهابطين ليحجز مقعده، عاتبه أحدهم: مش تصبر؟.. انت خلعت كتفي.
قال: واقف من ساعة ولو ما عملتش كده مش هركب.
توسع العتاب وانضمت إليه أعداد أخرى، وكان معظم الحانقين ممن لم يحصلوا على مقاعد في الباص المزدحم، بينما كانت لغة الجالسين هادئة وفكاهية، وتتناول المشكلة بتندر واستخفاف.
قالت موظفة في الأربعين من عمرها: بقينا وحوش مع بعض.. عمر البلد دي ما هتنضف.
قال رجل في مثل عمرها: انتو اللي بوظتوا البلد وزحمتوها.. اقعدوا في بيوتكم وهي تنضف.
رد عليه شاب موبخاً: احترم نفسك.. المرأة لها حق الشغل في المواصلات العامة زيها زيك.
وبينما يتحرك الأتوبيس من محطته، ظهرت جدران المتحف
المصري على رأس ميدان التحرير، كأنها سجن كبير يضم تماثيل المصري القديم الذي كان يقدس الجسد باعتباره دليل الروح، بينما المصري الحديث ينتهك الجسد بالتعذيب الممنهج في السجون والبيوت والشوارع والمواصلات.
(3)
نظر الطالب الجامعي لزميله باسماً، ثم مال على أذنه يهمس: سيبك من محاضرات دكتور التاريخ.. مش هنفهم منها ملامح وعلامات التدهور في مراحل الانحطاط.. الانحطاط أهو قدامك بشحمه ولحمه.. احنا سكان كوكب الانحطاط.
قال ثالثهم (طالب الفنون الجميلة) من وراء نظارته الطبية: إذن فليقطع فان جوخ أذنه!
ضحك الثلاثة، من غير أن يلتفت إليهم أحد من ركاب سفينة الحمقى البرية.
(4)
الانحطاط ليس غريبا عن مصر، فتاريخنا الطويل عبارة عن منحنيات بين قمم وقيعان، والمؤكد أن معظمكم قد صادف في دراسته لمحة عن مصطلح "عصور الاضمحلال". وإذا تذكرنا الدولة المصرية القديمة سنعرف أنها تلاشت سياسيا ولغويا وعلميا بعد ثلاثة فترات كئيبة من عصور الانحطاط والاضمحلال؛ أولها بدأ بعد الأسرة السادسة، وثانيها مع احتلال الهكسوس، وثالثها وصل بالدولة القديمة إلى عصور الظلام، ثم السقوط إلى غير رجعة في قبضة حكم الأجانب.
(5)
ما يعنينا الآن ليس هوية الحكم، ولا توصيف المرحلة، لكن الاعتراف بواقعية بأننا نعيش مرحلة انحطاط، وأن ندرك عوامل النهوض الممكنة لنخرج بسلام من هذا الاضمحلال؛ دون أن نذهب إلى احتلال أجنبي، أو نصل إلى النهاية.
التجارب التاريخية تؤكد أن سمات الاضمحلال تتلخص في الانقسام المجتمعي، والانحلال الأخلاقي، والفساد السياسي، والتفاوت الطبقي، وخلل أولويات الإنفاق. وإذا بحثنا عن الحياد، يمكننا أن نأخذ بشهادة لمؤرخ أجنبي محب لبلادنا (أرنولد توينبي تحدث فيها عن خلل الإنفاق كسبب مهم من أسباب الاضمحلال في مصر القديمة، مؤكدا أن مكافآت الكهنة المبالغ فيها وتكلفة المدافن والمعابد الفخمة كانت أكبر الأعباء التي قصمت ظهر الفلاح المصري، فلما ضعفت الدولة في عهد بيبي الثاني قام بثورة شعبية عارمة؛ نهب فيها القصور ودمر الكثير من المعابد والتماثيل، واتخذ من سادته القدماء خدماً وعبيداً، ويصف هنري بريستد في كتابه المرجعي عن تاريخ مصر مظاهر الفوضى والانحلال، مؤكدا أن ذلك التخريب الكاسح تحول مع الوقت إلى فرصة سانحة لكي يتسلل أعداء الشرق إلى البلاد، لتمتد مرحلة الانحطاط حتى نهاية الأسرة العاشرة.
(5)
المخيف هنا أن الانحطاط هو مقدمة الاحتلال، كما أن الفساد هو مقدمة الاضمحلال، والمخيف أكثر أن الشعب قد يتحول إلى شريك في الجريمتين: جريمة التوسع في الانحطاط، وجريمة التدمير الأعمى وفتح الطريق للاحتلال أيا كانت صورته، سواء بالتسلل على طريقة القبائل الآسيوية في عصر الاضمحلال الأول، أو بالاحتلال العسكري المباشر كما فعل الهكسوس في عصر الاضمحلال الثاني، أو بالاحتلال الحضاري المقيم كما فعل أجانب كثيرون جعلوا من مصر "دولة مسخاً" غير ما كانت عليه دولة الحضارة القديمة، فقد صارت "دولة تائهة" تبحث عن هوية لا تعرفها حتى الآن!
(6)
الحديث عن شراكة الشعب في الانحطاط هو المدخل الصحيح للخروج من المازق؛ لأن الشعب الضحية يتحول في مراحل الانحطاط إلى جلاد، إذ يبرر لنفسه ارتكاب نفس الأخطاء التي ثار عليها، ويرتكب نفس المظالم التي عانى منها، ويعيد إنتاج نظام الغبن والفساد والانحلال الأخلاقي والتخريب الحضاري، لذلك لم نعبر من عصور الانحطاط إلى طرق الحضارة المستقرة، لكننا نواصل الدوران في نفس الدوائر المغلقة، ونعيد إنتاج نفس الأمراض العتيقة في العلاقة الانعكاسية بين الحاكم والمواطن، فبمجرد أن يتحول المواطن إلى حاكم ينسى موقعه من المواطنة، ولا يتذكر إلا قواعد الحكم الظالمة، أن يتحكم وينفق ويتكلم كيفما شاء، وأن يقرر بلا مشورة ويؤمر فيطاع.
(7)
داخل هذه الدائرة المفرغة يتخلص الشعب من الأخلاق التي لم تسعده، ويقتبس من السلطة أخلاقها الفاسدة، ينسى الحكمة ويفضل عليها النتقام، ينسى الزراعة والدراسة والرحمة ويفضل عليهم الكسب بالإتاوة والنهب السريع والقوة الغاشمة، لهذا تتحول جمهورياتنا إلى ملكيات وإقطاعيات، وتتحول ثوراتنا إلى انقلابات، وتتحول كل ضحية فينا إذا سنحت لها الفرصة إلى جلاد وطاغية.
(8)
والآن أخاطب طالب الفنون التشكيلية الذي قال ساخراً لزميليه طلبة كلية الآداب: ليقطع فان جوخ أذنه؛ لأن ميكافيللي هو الذي يستحق قطع لسانه، فلو لم يبرر للحقراء المكسب حتى ولو بالخسة ما فقد فان جوخ عقله، ولا فقد وائل غنيم اتزانه، ولا انتحر بو عزيري، ولا سُجن هشام جنينة وعادل صبري، ولا خرب المغول الجدد بلادنا من العراق إلى السودان، ولا تمكن السيسي من مجاهرة الفقراء ببناء القصور، ولا صارت مصائر الشرفاء بيد الأوغاد.
tamahi@hotmail.com