لا يمكن شرح أو تحليل ترهات
وافتراءات الرئيس اللبناني ميشيل عون بحق
الدولة العثمانية واتهامها بالإرهاب، كما أي تطورات ومستجدات أخرى في
لبنان، دون أخذ ثلاثة ثوابت ومحددات أساسية بعين الاعتبار. أوّلها أن لبنان دولة محتلة ومختطفة من الاحتلال الفارسي، مع ثلاث عواصم عربية أخرى يتفاخر ويتبجح المسؤولون الإيرانيون باحتلالها؛ ضمن إمبراطورية الدم والوهم الفارسية، التي عاصمتها مدينة محتلة عربية أخرى هي بغداد..
لا ينفصل عما سبق حقيقة أن لبنان بات خاضعاً تماماً لهيمنة وسطوة الذراع المركزي الإقليمي لإيران، أي حزب الله، بقوة القهر العنف السلاح الذي يتحكم بشكل فظّ (وحتى ليس ناعما) بقرارات البلد الكبرى؛ السياسية والأمنية وحتى الاقتصادية والاجتماعية..
ثالثاً، ومرتبطاً بما سبق، ميشيل عون نفسه وصل إلى قصر الرئاسة بفضل سلاح حزب الله، كما قال النائب عن الحزب نواف الموسوي علناً في البرلمان. وجوهر الصفقة كان القبول بهيمنة حزب الله مقابل إعطاء عون نصيبا كبيرا من كعكة السلطة، بل من جيفة الدولة اللبنانية المنهارة.
بدا الأمر هنا وكأنه يشبه اتفاق أوسلو سيئ الصيت؛ الذي تخلت فيه منظمة التحرير الفلسطينية عن روحها مقابل الاعتراف الإسرائيلي بجسدها. وصفقة وصول عون للرئاسة تضمنت تخليه عن روح الدولة اللبنانية المدنية الديمقراطية الليبرالية المسالمة المنفتحة؛ مقابل ترؤسه جسدها الضعيف المختطف أصلاً بالقوة من قبل حزب الله.
تصريحات.. أو بالأحرى افتراءات وترهات عون
بحق الدولة العثمانية واتهامها بالإرهاب؛ تندرج ضمن المحددات الثلاثة السابقة، إرضاء لإمبراطورية الدم والوهم الفارسية، ولذراعها المهيمن على البلد، أو من ينفذ احتلالها، ورغبة بتأكيد قدراته وأحقيته بالمنصب (الوهمي). ولا يقل عن ذاك أهمية تعبيد طريق قصر بعبدا أمام صهره جبران باسيل، وتقديم أوراق اعتماد وصوله إلى الرئاسة تماماً، كما قال نواف الموسوي.
بتفصيل أكثر، فإن عون قال ما يطرب إيران والحزب تجاه الدولة العثمانية. فرغم حرص
تركيا (وريثة الدولة) على علاقات جيدة مع طهران، ووقوفها بمسؤولية وحكمة إلى جانب الدولة الإيرانية في المطبات المفاصل الصعبة، خاصة في سنوات الحصار العشر (2005– 2015)، ثم رفض التماهي مع العقوبات أو الخيار العسكري تجاهها، إلا أن "الحشد الشعبي" الإعلامي في بيروت، وغير بيروت، لا يتوقف عن انتقاد تركيا، بل حتى شيطنة سياساتها علاقاتها العربية الإسلامية..
يمكن فقط تذكر موقف هؤلاء أثناء معركة "غصن الزيتون" عفرين ودفاع تركيا عن نفسها في مواجهة الإرهاب الممول من الحشد الشعبي في العراق، والتشفي بنتائج الانتخابات المحلية التي تراجع فيها جزئياً حزب العدالة والتنمية، رغم تبنيه سياسة الانفتاح على إيران والجوار العربي الإسلامي بشكل عام. هنا يمكن كذلك استحضار استطلاع مركز بيو الشهير في 12 كانون الأول/ ديسمبر 2017؛ عن تركيا والرئيس أردوغان وسياساته في المنطقة، فمقابل
تأييد عربي إسلامي عارم في الحواضر العربية والإسلامية؛ فقط بيئة حزب الهق والاحتلال الإسرائيلي تكره تركيا- أردوغان ولا تحب سياساته.
عون يسدد إذن فاتورة، بل فواتير وصوله إلى بعبدا، بتبني كامل للموقف الإيراني وذراعه، والمعادلة تضمنت أيضاً تسليم السيادة للحزب مقابل حصوله على فتات السلطة. والأمر لا يتعلق بتسديد الفاتورة تبني الرواية، ولكن لتمهيد الطريق أمام صهره وزير الخارجية العنصري الذى يتبنى خطاب فاشي تجاه اللاجئين الفلسطينيين والسوريين في لبنان ليصل للرئاسة بنفس الطريقة التي وصل فيها عون نفسه، أي عبر الحزب وسلاحه.
ثمة معطى لا ينفصل عن تبعية عون للحزب ومشغليه في إيران؛ يتعلق بما يسمى حلف الأقليات المذهبي الذي يساند الطغاة والانقلابيين ضد الثورات ويستحضر الغزاة، بل يستجدى احتلالهم لحواضرنا الكبرى خاصة في الشام والعراق.
حلف الأقليات يسعى لتأجيج الخطاب المذهبي الطائفي ومحاربة الثورات فقط من منطق طائفي والاستعانة ليس فقط بإيران وسياساتها المذهبية، إنما الغزاة الأمريكان والروس لتقوية نفسه في مواجهة الغالبية الكتلة والأكثرية الثائرة ضد الغزاة والطغاة على حد سواء.
جوزيف أبي فاضل، أحد الناطقين باسم التيار العونى والذي كان عضواً في الوفد الرئاسي الرسمي إلى اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة العام الماضي، وصف وشرح جوهر حلف الأقليات، فقال علناً على الهواء (لجزيرة - 28 نيسان/ أبريل 2015) أنه مع حسن نصر الهت وبشار الأسد والأمريكان وأوروبا والغرب في المواجهة؛ حتى تحرير إسطنبول ولبنان وفلسطين وسوريا والعراق واستعادتها من المسلمين.
بالعودة إلى الدولة العثمانية التي اتهمها عون بالإرهاب، فهي
كانت آخر تعبير مؤسساتي حضاري عن ثقافة الأمة وعقلها الجمعي. وهي صدت الغزاة لقرون عن القدس فلسطين والمنطقة، وحمت الأقليات وتسامحت معها ومنعت التنكيل بها، أو النيل من حقوقها، كما يقول المفكر اللبناني المسيحي فيكتور سحاب (الأناضول- 1 أيلول/ سبتمبر 2019) بحق؛ إن الحروب المذهبية بدأت مع ضعف الدولة العثمانية، وازدياد تدخل القنصليات الأجنبية السلبي والخبيث في شؤونها، خاصة في بلاد الشام.
أما ما يتم تداوله عن جمال باشا وجرائمه، فهو كان عضواً في مجموعة انقلابية حاربت هدمت الدولة العثنمانية؛ تصرفت بشكل قمعي عنيف مع السلطان عبد الحميد الذي فضل التخلي عن ذراعه وعدم التخلي عن فلسطين، والذي لو كان قبل صفقة القرن العشرين لبقيت الدولة العثمانية حاضرة حتى الآن.
ما كان جدي عبد الرحمن باشا عزام، أول أمين عام للجامعة العربية، ليقاتل متطوعاً مع دولة إرهابية (الحرب العالمية الأولى)، أيضاً ما كان أمير شعرائنا أحمد شوقي ليرثي باكياً دولة إرهابية.
أخلاقياً سياسياً وحتى ديمقراطياً (كمن وصل للسلطة بقوة وقهر السلاح) لا يملك عون الشرعية لاتهام الدولة العثمانية بالإرهاب، وهو من احتمى واحتفى بالاستعمار الفرنسي الذي قتل ملايين من أهلنا، وحاول تغيير هوية المنطقة وثقافتها، كما فعل ذلك مع الاحتلال الإسرائيلي عند غزو لبنان في العام 1982.
الشهيد المفكر د. فتحي الشقاقي كان يتحدث دائماً عن ثلاثيته العبقرية: هدم الدولة العثمانية، ثم سايكس بيكو من أجل اغتصاب فلسطين، وتأسيس إسرائيل. والدولة التي يتهمها عون بالإرهاب فتتت أساساً من أجل تأسيس إسرائيل الإرهابية، والمناسبة التي اتهمها فيها بالإرهاب (تأسيس لبنان الكبير 1920) هي نفسها من تجليات سايكس بيكو التي كانت الخطوة الثانية لاغتصاب فلسطين وتشريد أهلها.
عموماً؛ فإن افتراءات وترهات عون هي ضد مصلحة الدولة الضعيفة المعزولة التي تعاني على كل المستويات، بينما تعتبر تركيا رئة يتنفس عبرها لبنان واللبنانيون على حد سواء، لكن الخطاب يرضي النفس الاستعماري لإيران وأدواتها، ويصب في المصلحة الضيقة لعون لتأكيد جدارته في قصر بعبدا، وتمهيد الطريق أمام صهره العنصري الذي يتبنى نفس الخطاب الأقلوي البغيض.