على خلاف تجارب حركات الإسلام السياسي في العالم العربي، تمكن إسلاميو إيران الذين وصلوا إلى السلطة عام 1979 في ثورة شعبية، أسقطت حكم الشاه وأقامت نظام الجمهورية الإسلامية الإيرانية، من ترسيخ تجربة سياسية مختلفة، ولم تكتف فقط ببناء الدولة والتأسيس لنموذج في الحكم يمتاح أسسه من المرحعية الإسلامية الشيعية، بل وتحولت إلى قوة إقليمية وامتد نفوذها إلى عدد من العواصم العربية.
ومع أن التجربة الإسلامية في إيران، قد أثارت مخاوف المنطقة العربية، التي وقفت ضدها في حرب الثمانية أعوام من خلال دعم الرئيس العراقي الراحل صدام حسين في تلك الحرب، فإنها لم تحظ بالاهتمام الفكري والعقلاني الهادئ، لفهم أسرار قوة هذه التجربة، وفهم آليات تمكنها من الحكم، وقدرتها على مواجهة الحرب مع العراق بالإضافة إلى الحصار الإقليمي والدولي.
وتزداد أهمية قراءة التجربة السياسية في إيران، هذه الأيام، بالنظر إلى صعود نفوذ طهران السياسي في المنطقة بشكل عام، ولا سيما في دول الربيع العربي، التي تمكنت طهران من أن تكون واحدة من أهم القوى النافذة فيها، إن لم يكن بشكل مباشر كما هو الحال في اليمن والعراق وسوريا ولبنان، فبمن خلال السياة الناعمة كما هو الحال في علاقاتها مع باقي دول الربيع العربي.
"عربي21"، تفتح ملف التجربة الإيرانية، ليس فقط من زاويتها الدينية أو السياسية أو الدفاعية، وإنما أيضا من زاويتها الفكرية بهدف فهمها أولا، ثم معرفة أسرار نجاحها وتمددها في المنطقة، واستحالتها أخيرا إلى قوة إقليمية ودولية.
يشارك في هذا الملف الأول من نوعه في وسائل الإعلام العربية نخبة من السياسيين والمفكرين والإعلاميين العرب، بتقارير وآراء تقييمية للنهج الإيراني في الدين والسياسة والفكر.
وقد افتتحنا الملف بمساهمة أولى للكاتب والإعلامي العراقي صادق الطائي، تناول في قسمها الأول نشأة الإسلام السياسي الشيعي في إيران وصولا إلى الحكم.. وفي الجزء الثاني من مساهمته يسلط الطائي الضوء على التحولات التي أحدثتها الثورة الإيرانية ووصول الإسلام السياسي الشيعي إلى الحكم.
الثورة الإسلامية ونتائجها
ربما كانت لمقولة آية الله شريعتمداري ـ وهو من آيات الله المعارضين في زمن الشاه وزمن الثورة ـ دلالة كبيرة إذ قال متهكما: "لم يتوقع أحد أن يعود الإمام الغائب في طائرة نفاثة من طراز جامبو".
ويصف الدكتور علي مبروك ذلك في كتابه "لعبة الحداثة بين الجنرال والباشا" فيقول معلقا على ذلك: "رغم ان الغائب الذي عاد في الجامبو لم يكن هو الإمام المهدي الذي ظل الشيعة ينتظرون رجعته على مدى قرون ليملأ الأرض عدلا بعد أن ملئت جورا وظلما، بل كان آية الله الخميني، وهو أحد أفراد السلالة المتمردة من الفقهاء المناضلين، الذين تصدوا للنهوض بعبء ما ظل الشيعة يعتقدون لقرون أنه من مهام الإمام دون سواه. لم يجد آية الله شريعتمداري إلا هذا القول ليتهكم به على مشهد عودة آية الله الخميني إلى طهران بعد انتصار الثورة".
الإسللاميون يجنون ثمار الثورة
كان لنجاح الثورة الإيرانية في شباط/ فبراير 1979 الأثر الكبير على حركات الإسلام السياسي الشيعي، فبالرغم من أن طيفا واسعا شارك في الإنتفاضة الشعبية التي أطاحت حكم الشاه في طهران تنوع بين الأحزاب الماركسية والليبرالية والإسلامية، والتي اتفقت جميعها حينذاك على أن تتخذ من رجل الدين الأبرز آية الله الخميني رمزا وشعارا للثورة، إلا أن الإسلاميين الذين سرعان ما رصوا صفوفهم وتكاتفوا، وأنشأوا حزبا جديدا جامعا هو "حزب جمهوري إسلامي" الذي بني على أسس حزب "الهيئات المؤتلفة" القديم .
كان لنجاح الثورة الإيرانية في شباط / فبراير 1979 الأثر الكبير على حركات الإسلام السياسي الشيعي،
تصدير الثورة
اما على الصعيد الخارجي فقد انطلق العمل وفق النظرية الثورية للإسلام السياسي الشيعي والتي عرفت بأهم استراتيجياتها وهي "تصدير الثورة"، والذي تمثل بالحراك على دول المنطقة التي يعيش فيها الشيعة مثل العراق ولبنان وبعض دول الخليج لتثوير مجتمعاتها وإسقاط نظمها الحاكمة والانضمام إلى الجمهورية الإسلامية في إيران تحت مظلة الولي الفقيه، كما تطور الأمر باتجاه دعم مختلف الحركات الإسلامية الثورية السنية والشيعية مثل الإخوان المسلمين والحركات الإسلامية خرجت من عباءتها في فلسطين والحركات الإسلامية في لبنان الغارق حينها في أتون حرب أهلية .
من الخميني إلى خامنئي
بعد رحيل آية الله الخميني عام 1989 وتولي خلفه آية الله خامنئي سدة الولي الفقيه، انقسم مشهد الإسلام السياسي الشيعي في إيران إلى تيارين رئيسيين هما: التيار الإصلاحي والتيار المحافظ، اللذان يتنافسان ضمن هامش ديمقراطي ضيق يتيحه النظام السياسي في ايران تحت نظام يتحكم به الولي الفقيه، وبالرغم من أن هذا التقسيم قائم منذ تسعينات القرن الماضي حتى الآن، إلا أن الغموض وعدم وضوح الحدود ما زال يكتنفه، فلا توجد تنظيمات سياسية واضحة ممثلة لكل تيار.
إن الحراك عادة ما يتم نتيجة الالتفاف حول شخصيات ممثلة لكل اتجاه، فالمحافظون متمرسون بالمنظمات والتشكيلات القريبة من الولي الفقيه مثل الحرس الثوري والباسيج والحرس القديم لنظام الولي الفقيه في المؤسسات الدستورية، بينما التيار الإصلاحي ينتج عادة من التفاف حراك الشباب والطلبة حول شخصيات إصلاحية مثل الرئيس محمد خاتمي ومير حسين موسوي ومهدي كروبي، كما حصل فيما عرف بالانتفاضة الخضراء عام 2009، في التظاهرات التي خرجت رافضة نتائج الانتخابات الرئاسية، وقد تحول رموز التيار الإصلاحي إلى رموز ونماذج إصلاحية التف حولها الشباب لتشكيل حركتهم الإصلاحية التي اجهضت. ولم تزل جولات الصراع بين الإصلاحيين والمحافظين مستمرة حتى الآن في ظل الولاية الثانية لرئيس الجمهورية الإصلاحي حسن روحاني والتي يبدو أنها باتت تمثل المعلم الرئيس للإسلام الشيعي في إيران .
إقرأ أيضا: إسلاميو إيران وقصة الانتقال من تنظيمات سرية إلى قيادة الدولة
إسلاميو إيران وقصة الانتقال من تنظيمات سرية إلى قيادة الدولة
الإسلاميون والحريّات الفرديّة.. من الدعوة إلى الدولة
التصوّف في تونس.. معراج إلى الله أم مدارج للسلطة والجاه؟