أعاد الحراك الشعبي المستمر في الجزائر منذ أواخر شهر شباط (فبراير) الماضي، الحياة إلى المشهد السياسي الجزائري، الذي خيّل للبعض في وقت من الأوقات أنه أمسى صحراء قاحلة بفعل سنوات التجريف، التي تلت أول انتخابات ديمقراطية تعددية في الجزائر في تسعينيات القرن الماضي، كادت أن توصل إسلاميي جبهة الإنقاذ إلى الحكم.
ولم يتوقف تأثير الحراك الشعبي على إحداث تغييرات سياسية دراماتيكية فاقت في حيثياتها المتوقع، حيث تم فتح أبواب السجون لمن كانوا يقودون البلاد لعقدين من الزمن، وتغيرت حتى التحالفات الإقليمية والدولية، والحبل على الجرار.
ومع الجدل القانوني والدستوري الذي رافق تنحية الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة، وشروط الاستعداد لانتخاب خليفة له، لازالت الساحات الإعلامية والسياسية والفكرية والنقابية تزخر بنقاش معمق حول قضايا الانتقال الديمقراطي، آخرها التلويح بالعصيان المدني لفرض التغيير.
الكاتب والإعلامي الجزائري حسان زهار، أعد هذا التقرير الخاص لـ "عربي21" عن العصيان المدني كأحد آليات التدافع السياسي، في واحدة من أخطر مراحل الانتقال السياسي التي تعرفها الجزائر المعاصرة:
ارتفاع درجة القلق والتوتر
لا تنتشر ثقافة العصيان المدني في عالمنا العربي بشكل واسع، بل إن الدعوة إليه في بلداننا العربية، حيث مساحات الحرية والديمقراطية ضيقة، مغامرة غير محسوبة العواقب، وذلك سواء من حيث النوايا الحقيقية للداعين إليها، أو للطريقة التي يمكن أن تواجه بها النظم القائمة مثل تلك الدعوات.
وتأتي الدعوة إلى العصيان المدني في الجزائر مؤخرا، رغم أنها من أصوات محدودة داخل الحراك الشعبي المستمر منذ 25 أسبوعا، وكذا من بعض وجوه معارضة الخارج، والاستعداد لها في الشهر المقبل، لترفع من درجة القلق والتوتر من إمكانية انحراف المسار السلمي للاحتجاجات الجزائرية، إلى منعرج آخر، قد يؤدي إلى الصدام الذي ظل مستبعدا طوال الشهور الماضية.
وبعيدا عن التعريفات الكلاسيكية لمفهوم العصيان المدني، التي تتمحور في مجملها حول كونه عملا سياسيا له طابع جماعي لفئات من الشعب، يتعارض مع القانون الذي يتم خرقه بشكل واع ومتعمد، بغرض إحداث تغييرات اجتماعية أو سياسية، فإن التجارب العالمية التي عرفت تطبيقات هذا النوع من المعارضة الجماعية "السلمية"، تتفاوت من مجتمع لآخر، حيث تتضح الفروق الجوهرية بين مظاهر تطبيقات العصيان المدني ونتائجه، في البلدان الديمقراطية مثل فرنسا وألمانيا وإيطاليا وبريطانيا والولايات المتحدة، وتلك التي تكون في الدول الأقل ديمقراطية. وبرغم الطابع السلمي لهذا النوع من العصيان، إلا أنه قد يكون طريقا سريعا لمواجهات دامية.
عصيان العام 1991 ما زال في الأذهان
تقول الحكاية التي لا تريد أن تغادر ذاكرة الكثير في الجزائر، من الذين عايشوا أهوال فترة بداية التسعينيات من القرن الماضي، أن الجبهة الإسلامية للإنقاذ وبعد فوزها بالانتخابات المحلية العام 1990، رفضت بشدة التعديلات التي أجراها نظام الشاذلي بن جديد على قانون الانتخابات، تمهيدا لإجراء الانتخابات التشريعية بعدها، وبدأت قيادات في الجبهة بالتلويح بالعصيان المدني والإضراب العام، وقد بدأ الأمر بكراسة صغيرة عن العصيان المدني، كتبها ووزعها القيادي في الجبهة سعيد مخلوفي، دعا فيها للعصيان المدني ورفض الديمقراطية "باعتبارها كفرا"، ليبدأ الإضراب العام الذي شل قطاعات واسعة بالبلاد يوم 25 أيار (مايو) 1991، مرفوقا بالاعتصامات العامة في ساحتي الشهداء وأول أيار (مايو) بقلب العاصمة، شهدت خلالها أحداثا جساما ومسيرات ضخمة، خاصة بعد تجاهل الرئيس الشاذلي احتجاجات الجبهة واعتصاماتها وإعلانه الذهاب إلى الانتخابات دون الاستجابة لمطالب المعتصمين، وانطلاق الحملة الانتخابية، ليرتفع إثرها سقف مطالب الجبهة إلى إسقاط الرئيس الشاذلي عبر الشعار المعروف (مسمار جحا لازم يتنحى)، وإسقاط حكومة مولود حمروش أيضا، قبل أن تتدخل قوات خاصة من الدرك الوطني يوم 4 حزيران / يونيو1991 بالقوة لإخلاء ساحات الاعتصام، حيث سقط خلالها الكثير من القتلى والجرحى، وأدى إلى استقالة حكومة مولود حمروش الإصلاحية، وتعويضها بحكومة سيد أحمد غزالي، وإعلان رئاسة الجمهورية حالة الحصار مدة أربعة اشهر قابلة للإلغاء في حال استتباب الأمن، لينتشر الجيش ويعلن فرض حالة حظر التجوال، قبل أن تشرع قيادات الجبهة الإسلامية في إطلاق تهديدات خطيرة، في حال لم يتم إلغاء حالة الحصار. الأمر الذي أدى إلى مواجهات دامية أسفرت عن مئات القتلى والجرحى، واعتقال الآلاف من أنصار الجبهة، بينهم قيادة الجبهة أنفسهم، وكل ذلك حدث تمهيدا للانقلاب العسكري كامل الأركان بعد فوز الجبهة بالانتخابات التشريعية في 12 كانون الثاني (يناير) 1992.
ولا تذكر هذه التجربة الدامية إلا بما وقع في اعتصامي "رابعة" و"النهضة" بمصر سنة 2003، عقب الانقلاب العسكري على حكم الرئيس مرسي، وما خلفه بدوره من ضحايا بالآلاف بين قتيل وجريح ومعتقل وطريد، بينما تمثل حالة العصيان المدني السوداني في 9 حزيران (يونيو) الماضي، حالة نجاح نسبي، بالنظر إلى الخسائر البشرية والمادية التي رافقته، وكذا مخرجات الاتفاق السياسي مع المجلس العسكري، التي ما زالت تثير الكثير من الشكوك والتحفظات.
الأنصار والرافضون للعصيان
مبدئيا، يوجد تخوف كبير في الداخل الجزائري من دعوات العصيان المدني، خاصة أنها تزامنت مع بداية جولات الحوار من أجل الخروج من الأزمة، وإيجاد أفضل الطرق والضمانات للذهاب إلى انتخابات رئاسية شفافة ونزيهة، غير أن المؤيدين للفكرة لديهم مبرراتهم التي يرفعونها في وجه الرافضين، يقولون إن منظومة الحكم القائمة حاليا، لا تريد أن تستمع إلى الحراك وإلى مطالب الشعب بضرورة التغيير الجذري للنظام، وأن النظام يعمل على إعادة إنتاج نفسه، وذلك برفضه تجاوز الحل الدستوري "الترقيعي" من وجهة نظرهم، والذهاب إلى الحل السياسي، وضرورة الإقرار بمرحلة انتقالية يقودها مجلس رئاسي من شخصيات نزيهة يثق فيهم الشعب، وأن كل ما تقوم به السلطة حاليا هو فتح المجال لحوار غير صادق، بدليل أن لجنة الحوار التي تم انتقاؤها من الوجوه التي لا تحظى باحترام كبير، والإطار الذي تم تحديده لهذا الحوار، إطار لا يخرج عما فصلته السلطة لنفسها، علاوة أن إجراءات التهدئة التي طالبت بها بعض القوى داخل الحراك قبل الشروع في أي حوار تم رفضها بالمطلق، على الرغم من أنها شروط بسيطة لإثبات حسن النية، من قبيل إطلاق سراح معتقلي الحراك من رافعي الراية الأمازيغية، ومعتقلي الرأي وعلى رأسهم الرائد بورقعة، ووقف المضايقات وفتح العاصمة أمام حرية التنقل والتظاهر، وفتح المجال الإعلامي للرأي الآخر.
ويرى أنصار هذا التوجه، أن العصيان المدني هو الحل الأخير في أيديهم، من أجل منع الجزائر من السقوط في خطر الدولة العسكرية، التي تلوح برأيهم مؤشراتها خلال تحكم الجيش في مفاصل القرار داخل السلطة، وفرضه خارطة طريق على الجميع.
لكن في المقابل، يقول الرافضون للعصيان المدني، إن الداعين لهذا العصيان جماعة قليلة مندسة، لديها أجندة غير وطنية، بدليل أن جل الداعمين لهذا التوجه هم من معارضة الخارج ونجوم (الشاو) الإعلامي، وهناك من يرى على غرار الكاتب الكبير واسيني الأعرج، أن الدولة العميقة اخترقت الحراك، وتحالفت مع بقايا الجيهة الإسلامية وحركة (الماك) الانفصالية، وهم من يقفون وراء هذه الدعوة، وأن أضرار العصيان ستكون على المواطن البسيط أكثر منها على النظام القائم، وأن ما يطرحونه من حلول غير دستورية، من شأنها أن تؤدي بالبلاد إلى الانهيار، أو على الأقل إلى الحالة السودانية التي وصلت إلى إعلان دستوري ملغم، بعد تخلي العسكر عن الدستور السوداني عقب الإطاحة بعمر البشير، وأن هذه الجماعة تعادي روح الديمقراطية والانتخابات، وتريد الاستيلاء على الحكم بواسطة التعيين، كما أن هذه الجماعة أظهرت منذ عدة أسابيع انتقادات حادة لقيادة الجيش، عبر تخوين هذه القيادة، في شعارات ما تبقى من الحراك، والدعوة الصريحة إلى الانقلاب العسكري ضدها داخل الجيش، ما يجعل دعوتها للعصيان المدني تحصيل حاصل ضمن مسعاها "الصدامي" مع الجيش ومؤسسات الدولة، وإخراج الحراك من إطارها السلمي الحضاري الذي أبهر العالم.
العصيان "حل انتحاري" لا يمكن أن ينجح
تجمع غالبية آراء الجزائريين ونخبه المثقفة على رفض فكرة العصيان المدني من أساسه، حيث يؤكد الدكتور رشيد ولد بوسيافة، رئيس تحرير بجريدة "الشروق اليومي" أن الدعوات الأخيرة للعصيان المدني لا يمكن أن تنجح، بالنظر إلى الرفض المطلق لهذه الدعوات سواء داخل الحراك الشعبي الذي يجب أن نقر أنه تراجع، ولم يعد بذلك الزخم الذي شهدته خلال الأشهر الأولى، كما أن العصيان مرفوض عند عامة الشعب الجزائري، وقد تجلى ذلك واضحا في مواقع التواصل الاجتماعي.
ويفسر الدكتور رشيد ولد بوسيافة في حديث لـ "عربي21" أن أكبر عامل لفشل الدعوات إلى العصيان المدني، هو الشخصيات التي تدعو إليه وهي شخصيات مرفوضة وبعضها يؤجح من وراء البحار ويدعو إلى التصعيد، دون الأخذ بعين الاعتبار أن الاستقرار مكسب لن يفرط فيه الجزائريون.
لكن يستدرك الدكتور بوسيافة أن هذه المعطيات يجب ألا تدفع صانع القرار إلى الاستمرار في تجاهل الأصوات الداعية إلى اتخاذ إجراءات للتهدئة، على رأسها إطلاق سراح المجاهد لخضر بورقعة وباقي معتقلي الحراك، وإنهاء التضييق الأمني على المسيرات وفتح وسائل الإعلام للجميع بمن فيهم المعارضون، ومثل هذه الإجراءات هي التي تقطع الطريق أمام الأصوات الداعية إلى التصعيد والعصيان المدني.
من جهته، يقول الناشط شريفي عبد القادر لـ "عربي21"، "إن الدعوات الأخيرة للعصيان هي تعبير صريح عن فشل الحراك ولجان الحوار في تحقيق الأهداف المرجوة منه، ومن ثم ارتأى البعض التصعيد والذهاب إلى الحلول الانتحارية أو المخطط (ب)، وقد يكون العصيان أخطر من المسيرات الأسبوعية (الحراك)؛ لأن الأقلية التي تدعو للعصيان لا تملك الوعاء الشعبي الذي يمكنها من قلب المعادلة في الشارع ".
لكن يقر الناشط شريفي عبد القادر مع ذلك، أن هذه الجهات تملك المال والإعلام والنقابات والجمعيات وتغلغلها في المؤسسات السيادية كالمطارات وشركات النفط والاتصالات، الأمر الذي قد يصنع الفارق لصالحها، لذلك فإن مجرد الإعلان عن التأهب للعصيان المدني، يرجح أن لديهم معطيات ميدانية تجعلهم يميلون لهذا الخيار الخطير والمستفز للمؤسسات الأمنية، باعتباره مقدمة للتدويل وفتح الباب للضغوط الأجنبية، واستدرار تعاطف ومساندة المنظمات الحقوقية الدولية باسم حماية الأقليات .
مع العصيان.. لكن الوقت غير مناسب
في المقابل، يبرر نشطاء آخرون بتحفظ هذه الدعوة للعصيان المدني، لإدراكهم ضرورة فرض مزيد من الضغط، لكن في الوقت نفسه يتخوفون من مآلات الأمور، وهنا يجد الأستاذ الجامعي حسام الدين مرزوقي الذي يعد نفسه من أنصار المرحلة الانتقالية، ويرفض الطرح الدستوري الذي يطرحه الجيش، أنه "ليس ضد العصيان كفكرة، لكن الوقت غير مناسب، والظروف غير مناسبة".
ويوضح الأستاذ حسام الدين مرزوقي لـ "عربي21" أن "فكرة العصيان المدني، حاليا تبدو ضبابية، ولا أعلم صراحة مدى انتشارها، إضافة إلى أن دلالات مفهوم العصيان المدني مربكة لقطاعات واسعة من الشعب، الذي يعيش حالات عصيان مدني منذ أكثر من 15 سنة تقريبا: قطع الطرقات، الاحتجاجات أمام البلديات والدوائر، مقاطعة الانتخابات، مقاطعة السياسة والشؤون العامة".
وأضاف: "أعتقد أن الأشكال المذكورة تدخل بشكل أو بآخر ضمن مظاهر العصيان، لكن يبدو أنه لا أحد مستعد للاعتراف بذلك، فكلمة العصيان المدني تحمل معنى مخيفا للكثيرين، لأن هناك اتفاقا غير معلن على إبقاء سقف الاحتجاج مسيطرا عليه جغرافيا"، ولذلك "بدل الحديث عن العصيان المدني، ينبغي الحديث عن إعادة زخم الحراك وإيجاد وسائل بديلة لتحقيق المطالب، لأن النظام استعاد زمام المبادرة منذ فترة بدليل التضييق والقمع والمتابعات القضائية في الفترة الأخيرة ضد المتظاهرين".
ولا يبتعد كثيرا الكاتب الدكتور شيخ عشراتي، عن هذا الطرح، من خلال إشاراته إلى وجود نية مبيتة لإجهاض الحراك، وأن أول معالمها هو هذا التأخر في البت من قبل العسكر في الحلول، وتكليف شخصية مثل كريم يونس لقيادة الحوار، إلى أن وصلنا إلآن الى مثل هذا التصعيد (العصيان المدني).
غير أن الدكتور شيخ عشراتي يعتقد في حديثه لـ "عربي21" أن العصيان المدني إذا ما حصل، قد يكون ذريعة للعسكر لإجهاض الحراك السلمي بشكل كامل، مشيرا إلى أن العصيان سيفشل في حالة تجاهله من قبل أغلبية الحراك، وأن العصيان سيموت بالتجاهل.
أهمية الحفاظ على السلمية
في النهاية، مهما اختلفت آراء الجزائريين في كيفية الوصول إلى دولة ديمقراطية تنهي ظاهرة الفساد والظلم، وتعيد للشعب كرامته المهدورة، فإن أهم مكسب تحقق لحد الآن هو مكسب السلمية ومظاهر التحضر التي ميزت حراك الجزائر، التي كانت وساما فوق صدور كل الجزائريين، وهي السلمية التي لا يجب أن تضيع تحت أي مسوغ مهما كان؛ لأن النضال السلمي وإن كان يحتاج إلى النفس الطويل، إلا أنه في النهاية أقل كلفة من الحلول المتهورة وغير المحسوبة، وربما من حسن حظ الجزائر أن لها تاريخا قريبا جدا، يفسر بوضوح أن التهور الذي حدث العام 1991، لا ينبغي أن يتكرر، وأن "ديكتاتورية الشارع" التي يريد البعض فرضها كبديل عن ديمقراطية الصندوق، انتهى زمانها بفعل الوعي المنتشر بين الناس.
الجزائر ليست معزولة عن محيطها العربي، ولا عن المخططات الخبيثة التي تستهدف المنطقة كلها، لذلك سيكون من الحكمة الوصول متأخرين إلى المحطة الأخيرة من الديمقراطية بشكل أنيق، على أن نغامر في محاولة الوصول إليها بسرعة، وفي النهاية إما أن نصل بكسور ورضوض لا تبرأ، أو لا نصل أبدا.
المثقفون والحراك الجزائري.. من قيادة الشارع إلى التبعية له
المغرب.. أسرار العودة إلى اللغة الفرنسية في المواد العلمية
الإنجليزية في الجزائر.. بين الشعبوية والتحول التاريخي