منذ أن تشكل مفهوم المثقف في الجزائر في النصف الأول من القرن العشرين، كان واضحا أنه حمل معه في زمن الاستعمار مدلولي الخيانة والوطنية، قبل أن يتحول المفهوم في زمن الدولة الوطنية بعد الاستقلال، ليحمل مدلولي المثقف النقدي و"الخبزيست" (الذي لا يهمه غير الخبز والمنافع المادية).
غير أن مرحلة الحكم البوتفليقي، قامت بما هو أخطر على الإطلاق في التاريخ الجزائري الحديث، حين أدت إلى تصحير الساحة الجزائرية من كل أدوات الإبداع، والإعلاء من شأن رجال المال الفاسد أو "البقارة" (مصطلح جزائري عن أصحاب المال من الجهلة من بائعي البقر وما شابه)، الذين أصبحوا يشترون المناصب بـ "الشكارة" (مصطلح جزائري عن المال)، حتى تسيد في البرلمان الحلاقات وأصحاب أسواق المواشي، لكي يقرروا مصير نخب كاملة مغمورة من المثقفين الذين يعيشون على الهامش.
ولم يكن الجزائريون بهذا، بدعا من إخوانهم العرب، فقد كانت انتفاضة الـ 22 شباط (فبراير) الماضي، انتفاضة شعبية بلا نخب تقودها، ولا حتى تستلهم منهم رؤيتها وأهدافها، وهو بالضبط ما حصل من قبل في مصر وتونس وسوريا، ليتم الاستعاضة عنهم بجمهور الملاعب والأحياء الشعبية، قبل أن يتبنى الإعلام الفرنسي تحديدا بعض النشطاء والحقوقيين في محاولة لصناعة قيادة نخبوية مزيفة، أفشلها الحراك الشعبي، برفضه لكل أشكال التمثيل.
غير أن هذا لا يعني مطلقا، أن الحراك الجزائري نزل من السماء، فمساهمة المثقف بمفهومه الواسع (الفن والأدب والإعلام والطب والسياسة والقانون ...)، تتجاوز مساهمة المثقف الكلاسيكي المقتصرة في دائرة الكاتب المبدع، المعروف في عصر الوسائط المتعددة (الميلتيميديا) اليوم بانعزاليته وتراجع تأثيره أمام سطوة مواقع التواصل، التي حولت المواطن البسيط إلى إعلامي وناشط سياسي ومبدع أيضا، ذلك أن تراكمات طويلة من لدن شرائح ثقافية متمردة على سلطة الدولة الفاشلة والفاسدة، عاشت الإقصاء والتهميش، وغلق فضاءات الميديا الثقيلة، خاصة التلفزيون والإذاعة وحتى الصحف، لا يمكن إنكار دورها الفعال في تقليص حجم الجريمة الموصوفة التي وقع فيها المثققف الكلاسيكي، الذي يتمثل بصورة واضحة في أكبر كيان ثقافي هو "اتحاد الكتاب الجزائريين" الغائب تماما عن المشهد الثوري.
من قيادة الشارع إلى التبعية له
هناك حقيقة واحدة مؤلمة يعترف بها الكثيرون الآن، لقد تخلف المثقف عن دوره في قيادة الشارع، وبدل أن يكون هذا المثقف في المقدمة، مثقفا "طلائعيا" كما جرت عليه أدبيات الستينيات، صار هذا المثقف تابعا للشارع، يردد في حال ما التحق بالثورة التي لم يكن أحد صناعها بالضرورة، شعارات كتبها وصاغها شباب الأحياء والملاعب، ضمن حالة من الشيزوفرينيا (الفصام) العجيبة.
الأعذار هنا كثيرة وغزيرة بالطبع، فالمثقف التابع بارع في الحجج التبريرية والتلفيقية، إنه يتحدث في الحالة الجزائرية، عن منظومة حكم صارمة، مارست الإغراء والإكراه معا، بطريقة جعلت معها إمكانية بروز أصوات حرة عملية محفوفة بالمخاطر، وشبه انتحارية. لقد صنعت المنظومة كل شيء يتحرك في البلاد، الأحزاب والنقابات والجمعيات والنخب، ومنحت النياشين لمن تشاء وأقصت من تشاء، بل إن حجم التكسير الذي تعرضت له الثقافة في الجزائر، إلى جانب منظومة التربية والتعليم، يفوق كل الوصف، كونه استهلك آلاف المليارات من الدناناير، في إنتاج الوعي المزيف ونجوم الأغنية الساقطة، أغاني الديسكو والليالي الحمراء، عبر ما يتم تخصيصه في ميزانية الثقافة لمهرجانات الرقص والغناء من الدرجة الخامسة، بينما لا يكاد يسمع ذكر لمهرجانات أو ملتقيات علمية وثقافية أو شعرية أو فكرية، حتى تميز عصر بوتفليقة بعصر عواصم الثقافة المزيفة التي استهلكت الملايير في تعويم "التفاهة"، بينما يحفظ التاريخ لعصر الشاذلي بن جديد مثلا على الأقل، أنه كان عصر "ملتقيات الفكر الإسلامي" الذي يجمع علماء الأمة من جميع بقاع الأرض.
ما حدث ويحدث من غياب وتغييب قصري أو تغيب إرادي، إنما هو نتاج عقود من الديكتاتورية، تراجع فيها المنتوج الفكري والثقافي النوعي في زمن التعددية المزيفة، عن نظيره في زمن الحزب الواحد، فكانت هذه الصحراء القاحلة، عندما قرر الشعب أن يأخذ مصيره بيده، بعد أن يئس من انتظار النخبة الطلائعية المنقذة.
وها هي النتيجة اليوم بكل وضوح، حراك بلا نخبة، وحراك يسقط كل اسم من هذه النخبة يحاول الإعلام تلميعه لركوب الموجة، فلقد أدرك الشعب بسجيته أن الثقافة هي موقف في الوقت المناسب، وليست معلومات خارج سياق العزة والتحرر.
الاستثناءات الخارقة
ورغم "خيانة" النخب الكلاسيكية، إن صح التعبير، لمهمة القيادة والتوجيه، وتقدم صفوف المطالبين بالحرية، إلا أن ذلك لم يمنع ظهور استثناءات يمكن اعتبارها بـ "الخارقة"، كونها خرقت طوقا حديديا تمت إحاطته بالمجتمع، عبر ما يسمى بمثقفي السلطة الذين تمت صناعة نجومية الكثير منهم من طرف قوى الدولة العميقة، التي كانت تحيي وتميت إلى وقت قريب.
لقد ظل المثقف المتمرد، على قلة انتشاره، والصعوبات الكبيرة التي يلاقيها في بث الوعي والتنوير، مؤثرا للغاية في إحداث التراكم المطلوب، وقد مثل هذا عدد لا يستهان به من الإعلاميين الرافضين لحكم بوتفليقة وقبله للانقلاب على انتخابات 1992، ومن هذا النوع من المثقفين المتمردين يمكن الإشارة إلى الإعلامي الراحل محمد تاملت الذي توفي بالسجن في ظروف غامصة، بتهمة قذف الذات الرئاسية، وإلى جانبه عدد من الكتاب والشعراء والفنانين ورجال السياسة أيضا.
وقد مثل هذا التوجه في الجانب الفني الذي يعد الأكثر تأثيرا لكونه يمس شرائح واسعة من المجتمع، حصة "جورنال القوصطو" و"ناس السطح"، بكوكبة من الفنانين أمثال نبيل عسلي، وقيادة المخرج المسرحي عبد القادر جريو، كما أحدث المخرج "جعفر قاسم" بعض الرضوض في الجدار الإسمنتي وإن بطرق إيحائية أكثر منها تصريحية، خاصة في مسلسل "عاشور العاشر"، كما اخترقت أصوات الفنانين أمثال بعزيز ولطفي دوبل كانو وعز الدين الشلفي، وغيرهم جزءا من هذا الجدار السميك.
وتبقى ظاهرة الراحل محمد الوالي المعروف باسم الماريشال القط (توفي في 13 أغسطس / آب 2018) على صفحات التواصل الاجتماعي، ظاهرة فريدة من نوعها، حيث بدأ النشر في قضايا التاريخ والحكم في الجزائر منذ 2011، انطلاقا من غلاسكو باسكتلاندا، محدثا هزة عنيفة في درجة الوعي وفهم الواقع السياسي والتاريخي، عبر ما كان ينشره من تحاليل وتوقعات حدثت جميعها تقريبا، ومن بينها اندلاع الثورة الحالية، وهو يمثل حاليا تيارا واسعا من جماعات الوعي الثوري الجديد، وإن كان هنالك من ينتقد مقارباته المتطرفة، وربطها جميعا بجزء من ساكنة الجزائر.
أما بعد اندلاع الحراك، فمقابل أولئك الذين استمروا في صمتهم الطويل، والانسحاب الكامل من المشهد، فإن عددا لا باس به من المثقفين حاولوا تقليص الهوة التي تفصلهم عن الشارع، عبر ركوب الموجة أو التهليل لها، بينما انخرط البعض الآخر في الحراك تنظيرا وتوجيها، ويتقدم هذا النوع من المثقفين الشاعر محمد جربوعة، عبر كتاباته المرافقة للحراك، وتزعمه لتيار "جزائريون" الوطني.
اتحاد الكتاب الجزائريين .. الغياب اللغز
لعل أبرز مثال على استقالة المثقف الكلاسيكي عن الفعل الثوري، هو حالة الموات الإكلينيكي التي يعيشها اتحاد الكتاب الجزائريين اليوم للأسف، على الرغم من تاريخه الطويل، وفي هذا الصدد يعبر الكاتب والأديب حمري بحري عن استغرابه وتعجبه من الصورة الباهتة لاتحاد الكتاب وهو أقدم جمعية ثقافية في الجزائر، مشيرا إلى أن هذا الاتحاد ظل بعيدا عن الشأن العام، وليس له أي رأي في القضايا الوطنية المهمة.
وكشف حمري بحري لـ "عربي21" أن "اتحاد الكتاب حسب علمي لم يصدر عنه أي بيان فيما يخص حراك 22 فبراير (شباط)، وكأن الحراك بالنسبة لهذه الجمعية الوازنة حدث جانبي لا يمكن الوقوف عنده"، منوها إلى أنه إذا كان هناك هدف للاتحاد في هذه المرحلة الحساسة من تاريخ البلاد، فهو البحث عن الجذور العميقة للمجتمع الجزائري والدفع بالكتابة لتكون شاهد إثبات على الحاضر أمام المستقبل.
ويرجح حمري بحري سبب هذه الوضعية الغريبة بل والمدهشة لاتحاد الكتاب الجزائريين، إلى كون الاتحاد في حاجة إلى ترميم الكسور التي أصابته منذ أكثر من عشرين سنة، جراء الصراعات الداخلية التي حدثت داخله.
ويؤيد الشاعر عبد العالي مزغيش هذه النظرة، مؤكدا أن اتحاد الكتاب الجزائريين لم يعبر عن أي موقف للأسف من ثورة 22 فبراير (شباط) إلى الآن .
فنانون سراق وسط الحراك
غير أن الشاعر عبد العالي مزغيش، رئيس "جمعية الكلمة للثقافة والإعلام"، لا يهتم كثيرا لأمر اتحاد الكتاب، قدر اهتمامه وتحذيره ممن أسماهم "المثقفين المتلونين"، الذين يمكنهم اليوم برأيه، أن يتحولوا إلى أبطال وقادة للرأي رغم أن تاريخهم مشوه، قائلا: "لقد رأينا فنانين تورطوا في أكل المال العام في مجال الإنتاج التلفزيوني والسينمائي، لكنهم لم يستحوا بل نزلوا إلى الشوارع يصرخون مع الشعب "كليتو لبلاد يا السراقين".
ويفسر الشاعر عبد العالي مزغيش في حديث لـ "عربي21" الوضع، بأن حالة التشتت التي يشهدها حال المثقفين والفنانين في الجزائر حالت وتحول دوما دون اتخاذ موقف موحد تجاه التحولات الكبرى للوطن، ذلك "أن المثقف الجزائري في رأيه مثقف رد الفعل وليس مثقفا فاعلا، وحتى بالنسبة لثورة 22 فبراير ظل متوجسا مترددا كأنه أصيب بصدمة، خصوصا أولئك الذين كانوا قريبين من دائرة النظام والمال الفاسد" .
ويتكلم عبد العالي مزغيش بوضوح في عمق الإشكالية، "إن المثقف الذي لا يقف إلى جانب المثقف في قضايا الثقافة المحورية وما يتعلق بطرق تسيير القطاع المترهل، لا يمكن أن ننتظر منه موقفا يعبر عن كتلة واحدة ينتمي إليها، فقد ساهم النظام الفاسد في تحييد المثقفين وتدجين الكثير منهم، فيما تم تهميش وإقصاء الأصوات الحرة التي وجدت مع ثورة 22 فبراير طريقا للعودة، هذه الأصوات الحرة غير المدجنة حري بها أن تقود المجتمع الآن وهو في أشد الحاجة إليها".
الحراك أهان المثقف فاستعلى عليه
ويفسر الدكتور محمد بغداد، صاحب المؤلفات العديدة مثل (حركة الإعلام الثقافي في الجزائر) و(إنتاج النخب الدينية في الجزائر)، علاقة المثقف بـ (الحراك)، بأن الحراك لم يظهر وهو مدين لأفكار المثقف، ولم يجد ما يسعفه بالأدوات التي تساعده على تلمس سلاسة طريقه وإزالة العقبات التي تعترضه، في حين أن (الحراك) بتناقضات مكوناته، شعر المثقف بإهانتها له، عندما قدم الكثير من السلوكات والمواقف التي تدين المثقف وتسخر منه وتحمله المسؤولية الأخلاقية والأدبية، فاستعلى بمستوى وعيه وإدراكه للأوضاع، متجاوزا كرامة المثقف المتحصن بالوعي والإدراك الأكاديميين.
وفي أول المنعرجات الحادة، في حديث الدكتور محمد بغداد لـ "عربي21"، برز الصدام بين (الحراك) والمثقف الذي استثمر في الشعارات والأحلام، وسارع إلى الاستيلاء على القيادة الرمزية (للحراك)، عبر المنابر الإعلامية مستعرضا عضلاته بـ (الخطابة) الوسيلة الأساسية للحصول على ميزة الانخراط في المرحلة الجديدة المتخيلة، في الوقت الذي كان (الحراك) يرافع بشعار (القطيعة) الحالمة، لتبرز في النهاية ثنائية (الانخراط) مقابل (القطيعة).
ويخلص الدكتور بغداد إلى أن هناك مقولة متوارثة "لم نكن فيها أتقياء بررة، ولا فجار أقوياء" ظهرت عقب أول ثورة للمثقفين ضد السلطة السياسية في التاريخ الإسلامي، وهي المقولة التي تفتح المساحة أمام قراءة طبيعة تفكير المثقفين في مختلف الأحداث الحادة في مسار الحياة.
كما يعترف الشاعر طارق ثابت بكثير من الأسف، أن أداء الكثير من المثقفين في الحراك كان أداء قاصرا، لم يرق للهبة الكبرى التي خرج من أجلها البسطاء من أبناء الشعب، فلم يكونوا (مع الاستثناء لأسماء قليلة) في المقدمة معه أولا، ووقفوا من الحراك موقف المتفرج المنتظر للنتائج في المرحلة الثانية، ثم حاول كثير منهم ركوبه والاستثمار فيه في المرحلة الراهنة للأسف.
ولو أن الشاعر طارق ثابت يستدرك في حديث لـ "عربي21" أنه مع هذا كله كان هنالك من بين هؤلاء المثقفين من استشرف ما عشناه ونعيشه من حراك من خلال عديد الكتابات، التي ألفت ومن خلال تأطيره لمسيرات الحراك في مدينته، ومن خلال تصحيح المفاهيم المرتبطة بالثورة والتغيير والحرية والقضاء على العصابة، وغيرها من المفاهيم التي شكلت لبسا وغموضا لدى أغلبية من خرج في الحراك.
المثقف الوحيد.. "فخامة الشعب الجزائري"
الرومانسيون في دنيا السياسة يتحدثون عن أن الحراك قد حرر قادة الجيش، ولولاه لبقي قادته يقدمون التحية العسكرية لشقيق الرئيس المريض، هذا أمر فيه نقاش بالطبع، لكن كيف لم يحرر الحراك المثقف بالقدر الكافي، وهو الذي كان عليه أن يحرر الشعب.
وإذا كانت مهمة الجيش هي المرافقة السياسية وتقديم الحماية بفائض القوة التي يمتلكها، فإن مهمة المثقف هي المرافقة الفنّية والجمالية، عبر الإنتاج الفني والسينمائي والأدبي، وعبر إنتاج البدائل الفكرية لمنظومة الحكم السابقة، وطرح تصورات مشاريع المجمع المأمول، لا يمكن للعامة إنتاجها.
هذا هو الرهان الأكبر الآن، الرهان الوحيد الذي سيمكن المثقف من الالتحاق بفخامة الشعب الجزائري، ليكون خادما له بعد أن كان من قبل، يرى نفسه مخلوقا عجيبا ينظر إلى الشعب من برجه العاجي، على أنه مجرد "غاشي" ( وصف أطلقه أحد كبار السياسيين المثقفين في تسعينييات القرن الماضي)، وأنه "لم يبلغ الحلم بعد" وأنه قاصر، ومن ثَمَّ لا يحق له أن يختار من يحكمه، بل أن يُختار له وهو يسمع ويطيع.
هذه هي المهمة الوحيدة المتبقية لكي يلتحق المثقف بركب البائع الجوال، ويجلس معه على رصيف الوطن، يتناقشان آليات الرقابة على الحاكم، وكيفية تحقيق العدالة الاجتماعية بين الغني والفقير، من أجل جزائر جديدة يعيش فيها من كان يصنف ضمن الأهالي أو (الأنديجينا) صفة المواطنة، ويعيش فيها بكرامة.
هل تقسم فرنسة التعليم في المغرب الإسلاميين؟
الإنجليزية في الجزائر.. بين الشعبوية والتحول التاريخي
جنون الكرة في زمن الثورة.. الجزائر نموذجا