لم نكن نحتاج لدليل جديد حتى
ندرك الثمن الباهظ للصراعات العربية، ولكن الاستقطاب الحاد الذي يعيشه العالم
العربي منذ سنوات أظهر لنا كم أن هذا الثمن مشين أيضا!
صراعات الدول الناشئة
دخلت الدول العربية منذ
"الاستقلال" في صراعات بينية على الرغم من كل شعارات الوحدة، ولم تنجح
محاولات "تجميلية" مثل إنشاء جامعة الدول العربية في إنهاء الصراعات أو
التقليل منها، بل كانت هذه الجامعة منذ تأسيسها مركزا للخطابات والشعارات الجميلة،
بعيدا عن التطبيق الواقعي على الأرض.
كان مركز الصراع في البدايات هو
نوع الأنظمة جمهورية كانت أم ملكية، ثم تحولت الصراعات تدريجيا لتتمركز حول الموقف
من الغرب ومن الاتحاد السوفييتي، والرأسمالية والاشتراكية، فظهر محورا الأنظمة
المحافظة "التي سماها خصومها رجعية"، وهي غالبا الدول التي كانت تحكم
بأنظمة ملكية أو أميرية كما هو الحال في دول الخليج، والأنظمة التي سمت نفسها
"تقدمية أو ثورية"، وهي غالبا الدول الجمهورية التي نتجت إما عن حروب
الاستقلال أو عن طريق الانقلابات.
كان مركز الصراع في البدايات هو نوع الأنظمة جمهورية كانت أم ملكية، ثم تحولت الصراعات تدريجيا لتتمركز حول الموقف من الغرب ومن الاتحاد السوفييتي، والرأسمالية والاشتراكية
أجلت هذه الصراعات في مرحلة
تأسيس "دولة ما بعد الاستقلال" التنمية والتقدم الاقتصادي، وأجلت أيضا
الاستقلال الحقيقي، فبدلا من تأسيس أطر تكاملية، كما هو الحال في "الاتحاد
الأوروبي" الذي أسس فيما بعد، تموضعت معظم الدول العربية في محاور قريبة إما
من الاتحاد السوفييتي أو الولايات المتحدة، ولكن الواقع زاد خطورة وبؤسا عندما لم
تكتف الدول الناشئة بالفشل في تأسيس أطر وحدوية أو تكاملية، بل زادت على ذلك
بالعمل ضد بعضها البعض، وطغى على الدول العربية صراعات "شعاراتية" فارغة
من المضمون، وسادت الانقلابات العسكرية، وتورطت مصر بحرب اليمن التي كانت السعودية
على الجانب الآخر منها. وبرغم "اللحظات" التاريخية القليلة التي شهدت
تعاونا عسكريا في حرب فلسطين وحرب النكسة وحرب أكتوبر، إلا أن سوء الفهم والصراعات
ظلت هي الغالبة طوال العقود التي أعقبت تأسيس دولة "ما بعد الاستقلال".
أدت هذه الصراعات إلى تعميق
التخلف الاقتصادي، وتأخير التنمية، وشهدت حروبا إعلامية بالغة السوء، كما أنها أدت
إلى ارتهان دول عربية إلى هذا المحور العالمي أو ذاك، ما شكل كوابح لصناعة استقلال
سياسي واقتصادي حقيقي في غالبية الدول العربية.
من كامب ديفيد إلى حرب الخليج
مثلت
انعطافة السياسة المصرية
في عهد السادات وتوقيع اتفاقية كامب ديفيد ملمحا مهما في الصراعات العربية، وأدت
إلى حدوث شرخ كبير بين دول الجامعة العربية، وعزلت الدولة الأكبر، مصر، بكل ثقلها
وتاريخها وأهميتها، وفقدت عضويتها في الجامعة التي انتقلت خلال هذه الفترة
الملتهبة بالصراعات إلى تونس. شهدت هذه الفترة صراعات إعلامية غير منتهية بسبب
انفراد مصر بعقد اتفاقية كامب ديفيد مع الاحتلال، وفقد العرب الدولة الأهم
والأكبر، كما فقدت هي أيضا ظهيرها العربي، وبدأت الطروحات الانعزالية لدى بعض
النخب المصرية المرتبطة بالسلطة بالتصاعد، وانشغل العرب مجدد بالصراعات بدلا من
التنمية والتكامل الاقتصادي الممكن والمفيد لجميع الأطراف.
أدت الصراعات إلى ارتهان دول عربية إلى هذا المحور العالمي أو ذاك، ما شكل كوابح لصناعة استقلال سياسي واقتصادي حقيقي في غالبية الدول العربية
وما أن ظهرت بوادر الانفراج بين
الدول العربية ومصر بالظهور في نهاية الثمانينيات، حتى دخلت المنطقة بنفق مظلم من
جديد، بعد احتلال العراق لدولة الكويت، وما تبعها من حرب مدمرة قسمت الدول
العربية، وكلفتها مئات المليارات من الدولارات، صرفت على حروب عربية-عربية، بدلا
من أن تصرف على التنمية والتطوير الاقتصادي، وعرفت الدول العربية انقساما بنيويا
واستقطابا غير مسبوق، لا نزال ندفع ثمنه الباهظ حتى اليوم.
وإضافة للثمن الاقتصادي الباهظ،
فقد دفعت الشعوب العربية أثمانا اجتماعية، تمثلت بانتشار الكراهية بين الشعوب،
وجروحا لم يندمل بعضها حتى الآن.
عصر الانتفاضات الشعبية وأزمة
الخليج
بعد سنوات من الهدوء النسبي في
الصراعات، رغم استمرار بعضها، انطلقت "الانتفاضات الشعبية الكبرى" في
نهاية عام 2010. مثلت هذه الانتفاضات وحدة شعبية عابرة للدول العربية منقطعة
النظير، وترددت نفس الشعارات في ميادين معظم الدول العربية، من تونس إلى اليمن إلى
المغرب إلى سوريا وغيرها من الدول. وحتى البلاد التي لم تشهد انتفاضات شعبية في
الشارع، فإنها تأثرت بالحالة الشعبية والوحدوية التي اجتاحت المنطقة، وصار الشأن
التونسي أو المصري أو غيره شأنا عربيا خالصا، وتنفست الشعوب كما النخب نسائم
الحرية، وعم النقاش المفعم بالحريات والكرامة جميع الدول العربية من المحيط
للخليج، وظن كثير من الحالمين أن لحظة الوحدة، أو على الأقل التكامل العربي، قد
حانت. ولم يكن هذا الظن سوى حلم حولته الأنظمة التي خشيت من هزيمتها أمام
التيارات الشعبية إلى كابوس مر، لا يزال يخيم على المنطقة منذ أكثر من ست سنوات.
في بداية عصر الانتفاضات، ومع
انشغال كثير من الدول العربية في المراحل الانتقالية التي أعقبت سقوط رؤوس
أنظمتها، ظهر مجلس التعاون الخليجي كمنظومة أكثر تماسكا برغم الخلافات بين دوله،
ولعب المجلس دورا قياديا في بناء موقف عربي من الأزمات في ليبيا وسوريا واليمن
تحديدا، كما لعب دورا في تمثيل المجموعة العربية في مؤسسات الأمم المتحدة في ما
يتعلق بالصراع العربي-الإسرائيلي.
هذا التماسك لم يلبث إلا أن يتحول إلى انفجار يهدد كل النسيج العربي، بعد الهجمة الشرسة التي قادتها دول رأت في الانتفاضات الشعبية تهديدا بنيويا لها
وبغض النظر عن الاتفاق أو
الاختلاف في الموقف من هذا الدور الجديد لمجلس التعاون، إلا أنه مثل على الأقل
كتلة متماسكة داخل الجامعة العربية التي أصابها الترهل والشيخوخة. ولكن هذا
التماسك لم يلبث إلا أن يتحول إلى انفجار يهدد كل النسيج العربي، بعد الهجمة
الشرسة التي قادتها دول رأت في الانتفاضات الشعبية تهديدا بنيويا لها، فدعمت
انقلاب الجيش على الرئيس المنتخب في مصر، الشهيد محمد مرسي، وخربت اتفاق الخليج
باليمن من خلال التخلي عن الحكومة الشرعية وتركها فريسة لحلفاء إيران الحوثيين،
وبدأت مواقفها بالتراجع شيئا فشيئا في سوريا بعد أن ساهمت في عسكرة
الثورة الشعبية
والمحقة في سوريا، وحاولت العبث بالتجربة الديمقراطية الناشئة في تونس، قبل أن
"تتوج" جهودها التخريبية بإعلان حصار قطر وعزلها عن محيطها الخليجي.
الثمن المشين للصراعات
مع وصولنا إلى لحظة
"القمة" في
الصراعات العربية بفعل هجمة دول "الثورات
المضادة"، صار الثمن الباهظ للصراعات أكثر تكلفة، وأكثر إذلالا للعرب، إذ إنه
لم يعد يقتصر على الثمن الاقتصادي، بل انتقل لبيع المواقف، على حساب القضايا
العربية والإسلامية والإنسانية مثل "فلسطين" والإيغور والروهينغيا،
وقضايا حقوق الإنسان عموما.
فعندما يصبح الصراع المركزي بين الدول العربية نفسها، تتضاءل الصراعات الأخرى، ويصبح السعي لإرضاء كل الأطراف
الأخرى مقدما على المصالح العربية، بل على مصلحة الدولة نفسها في بعض الأحيان.
الأخطر من ذلك، هو شراء الدعم الخارجي بدفع المواقف، كالترويج للتطبيع مع الاحتلال، وصفقة القرن، وتضخيم الصراع مع إيران على حساب الصراع مع الاحتلال الذي يهدد كافة دول المنطقة، والتخلي عن قضايا إسلامية وإنسانية
يظهر الثمن المشين للصراعات عبر
بوابة الدفع للولايات المتحدة بالمليارات لشراء الأسلحة والاتفاقات العسكرية التي
لا تعني لترامب سوى طريقة للحصول على الأموال، وعبر الدفع بعشرات الملايين لمؤسسات
اللوبي والضغط الأمريكية والغربية، والتي هي في غالبها مؤسسات تعمل لصالح اللوبي
الصهيوني.
ولكن الأخطر من ذلك، هو شراء
الدعم الخارجي بدفع المواقف، كالترويج للتطبيع مع الاحتلال، وصفقة القرن، وتضخيم
الصراع مع إيران على حساب الصراع مع الاحتلال الذي يهدد كافة دول المنطقة، والتخلي
عن قضايا إسلامية وإنسانية، ليصل الأمر إلى إصدار دول عربية وإسلامية رسالة للأمم
المتحدة
تؤيد فيها إجراءات الصين التعسفية ضد مسلمي الإيغور.
ليس من السهل توقع نتائج أي
سياسة بناء على المقدمات، ولا يمكن إذن مع تصاعد الصراعات العربية الداخلية، سوى
توقع نتائج بائسة لم يكن أكثر المتشائمين يراها في كوابيسه، وعندما يصبح العداء مع
الشقيق العربي هو مركز السياسة عند العربي الآخر، عندها فقط يمكن أن نفهم كيف أصبح
الفلسطيني عدوا، والأمريكي حليفا وصديقا، وقتل المسلم الإيغوري سياسة صينية
"حكيمة"!