قطر وأمريكا ومنطق الاستبداد العربي

بمناسبة زيارة أمير قطر إلى الولايات المتحدة الأمريكية، نشطت المنصات الإعلامية والتواصلية التابعة لدول الحصار؛ في محاولة التقليل من قيمة الزيارة وتشويهها. كما عملت نفس المنصات على تنسيق الهجمات عبر مواقع التواصل الاجتماعي للنيل من صورة البلد؛ في زيارة هي الأهم دوليا وإقليميا. لكن المتأمل لطبيعة الهجوم يدرك للوهلة الأولى التنسيق المسبق، سواء من خلال التوقيت أو عبر تكرار نفس السرديات التي تفننت في حياكتها دول الحصار؛ منذ أكثر من سنتين من الحرب الإعلامية.

علام تأسس خطاب دول الحصار في ما يتعلق بالعلاقات الأمريكية القطرية؟ ولماذا؟ وما هي أهم الأهداف التي يعمل حلف الحصار على تحقيقها، سواء في ما يتعلق بطبيعة علاقته هو مع الولايات المتحدة أم علاقة غيره؟

قطر في عيون الاستبداد وأبواقه

ترسم أدبيات الاستبداد العربي صورة قطر؛ لا باعتبارها حليفا أمريكيا، بل باعتبارها حليفا للصهيونية نفسها.. قطر دولة متآمرة، وهي التي صنعت كل الخراب والدمار في البلاد العربية منذ أحداث الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر، ولم تكتف بذلك، بل قامت عبر قناة الجزيرة، وبالتحالف مع الصهيونية والماسونية العالمية، بصناعة ثورات الربيع الأخيرة من تونس؛ لتمزيق وحدة الصف العربي وتدمير دول الخليج وضرب مصر وتفتيت سوريا. لقد تحالفت قطر مع التنظيم العالمي للإخوان، ومع داعش والنصرة، والحرس الثوري الإيراني، والجيش التركي لتمزيق المنطقة.

بالنسبة للإسلاميين من المداخلة والسلفيين، مثل جماعة حزب النور في مصر، فإن قطر هي السبب في كل المجازر والمذابح التي ارتكبها العسكر، وهي مخلب الإخوان و "الحزبيّين" لضرب مصر. أما عند القوميين العرب، فقطر هي حصان طروادة الذي تحالف مع الصهيونية لتدمير المقاومة والممانعة في سوريا، ممثلة في نظام بشار الأسد وحزب الله اللبناني الموالي لإيران، وهي كذلك الدولة التي تهدد أمن مصر الذي وضع أسسه "الزعيم الخالد" عبد الناصر. أما بالنسبة لليساريين والشيوعيين، فقطر ليست إلا جزءا من المشروع الأمريكي الإخواني لضرب المجتمعات العربية وبسط نفوذ النظام الإمبريالي العالمي في المنطقة. أما الليبراليون العرب، فهم بطبيعتهم المعادية للتيارات المحافظة أو الإسلامية؛ يعتبرون قطر حاملة للواء التطرف والتشدد والإرهاب، وهي تشكل مع تركيا "الإخوانية" خطرا وجوديا على المنطقة العربية.

 

تجمع هذه التهم متناقضات لا تحصى، فتقفز من إيران إلى الإخوان إلى داعش إلى الصهيونية، مرورا بالحرس الثوري وحزب الله والقوى الإمبريالية والرجعية العربية

ليست التهم السابقة والأراجيف التي تفتقد أي سند عقلي أو موضوعي من وحي الخيال، بل هي تهم حقيقية تسوقها منصات إعلامية معلومة، وتتفانى في نقلها وإعادتها على مسامع المتلقي يوميا. تجمع هذه التهم متناقضات لا تحصى، فتقفز من إيران إلى الإخوان إلى داعش إلى الصهيونية، مرورا بالحرس الثوري وحزب الله والقوى الإمبريالية والرجعية العربية.

قطر من ناحية أولى حليف للولايات المتحدة وللصهيونية، لكنها في نفس الخطاب حاملة لواء الإرهاب الإسلامي في المنطقة، وهي الممول الرئيسي لداعش وأخواتها عبر الحدود. لكن كيف يستقيم هذا المنطق؟ وكيف يمكن لقطر الدولة العربية الصغيرة جدا (كما يقول أعداؤها) أن تتحول إلى عفريت دولي قادر على كل ما سبق؟ وكيف يمكن أن تجتمع كل هذه القوى والتيارات الفكرية والسياسية المتقابلة على شيطنة قطر؟

ما وراء الأكمة

قطر دولة خليجية غنية بمواردها الطبيعية وخاصة ثروتها الغازية، وهي الثروة التي جلبت لها الكثير من المتاعب ومن المؤامرات؛ التي كان آخرها حصار بري وبحري وجوي، ومخطط للغزو العسكري هدفه وضع اليد على ثروات قطر، كما أكدت ذلك تقارير موثقة نشرتها كبرى المراكز والصحف الأجنبية.

قطر هي الدولة العربية والخليجية الوحيدة التي وقفت علانية مع ثورات الربيع، فساندتها بكل ما تملك إعلاميا وماديا ودبلوماسيا؛ إيمانا منها بأن هذه الثورات إيذان بانبعاث أمة جديدة ونظام رسمي عربي جديد. رهان قطر على ثورات الشعوب وضعها في صدام مباشر مع الدول المتنفذة والراعية لمحور الاستبداد العربي، وخاصة السعودية والإمارات ودولة الكيان.

حققت قطر أول قصص النجاح الإعلامي الدولي من خلال قناة الجزيرة؛ التي كانت أول منبر حرّ يكسر الحواجز بين المتلقي العربي والخبر، في وقت لم يكن للجماهير العربية من مصدر للمعلومة غير قنوات الاستبداد الرسمية وأكاذيبها. كما نجحت مؤخرا في تحقيق سبق رياضي كبير عبر فوزها بتنظيم كأس العالم 2022، دون غيرها من بقية الدول العربية والإسلامية.

 

كل هذا وغيره من أسباب النجاح وضع قطر في عين العاصفة، وجعلها هدفا مشروعا لمحور الاستبداد

كل هذا وغيره من أسباب النجاح وضع قطر في عين العاصفة، وجعلها هدفا مشروعا لمحور الاستبداد. نجح هذا المحور في إسقاط الثورات في الفوضى والاقتتال عبر الانقلابات الدامية التي نظمها في مصر وليبيا واليمن، وغيرها من محاور الصراع بين الثورة والثورة المضادة. إثر ذلك، كان مشروع حصار قطر والانقلاب على نظام الحكم فيها بالقوة العسكرية، وتنصيب نظام عميل يخدم المشروع الاستبدادي ولا يعطل صفقة القرن الصهيونية.

كان التخلص من الفاعل القطري يعني الكثير لمحور الاستبداد، فهو سيضرب عصافير كثيرة بحجر واحد. إذ سيتم إغلاق قناة الجزيرة التي فجّرت وعي الشعوب منذ تأسيسها خلال منتصف التسعينيات من القرن الماضي، وسيتم إعدام الشاهد الأساسي الناقل للخبر. من جهة أخرى، سيتوقف كل الدعم المقدم لمحور الثورات وقوى التغيير في المنطقة. أما أكبر العصافير فسيتمثل في وضع اليد على ثروات قطر الضخمة القادرة على حل كل الأزمات المالية لدول الحصار، كما سيتم تفعيل صفقة القرن مع الصهاينة دون اعتراض عربي يذكر، ودون تشويش إعلامي قد يفضح الجميع.

 

التخلص من الفاعل القطري يعني الكثير لمحور الاستبداد، فهو سيضرب عصافير كثيرة بحجر واحد.

الصورة اليوم

كثيرة جدا هي المكاسب التي كانت دول الحصار ستحققها من وراء غزو قطر واحتلالها ووضع نظام عميل تابع فيها، لكن كل هذه الأحلام تبخرت لأسباب كثيرة رغم الدعم الدولي والصهيوني الذي كان لها.  نجحت قطر في الصمود داخليا منذ اليوم الأول؛ لأن الجبهة الداخلية للبلاد كانت صلبة ومتماسكة بشكل لم تكن دول الحصار تتوقعه. إلى جانب هذا السبب الرئيسي، ساهمت عوامل كثيرة في هزيمة الحصار؛ منها ما تعلق بالقاعدة الأمريكية التي كانت تمثل حاجزا موضوعيا أمام كل عمل عسكري أجنبي.

صحيح أن ترامب كان، بمباركة صهره، ميّالا إلى محور الحصار بسبب غريزته المادية والإغراءات التي قدمتها له دول المنطقة التي كانت تسهر على تنفيذ المخطط، لكن المؤسسات الرسمية الأمريكية، وخاصة منها وزارة الدفاع والخارجية، كان لها رأي آخر، ومنعت كل عمل عسكري قد يفتح الخليج على تداعيات كارثية لا تمكن السيطرة عليها.

نجحت قطر الصغيرة في كسر الحصار، بل وحققت من ورائه مكاسب ما كانت تتوقعها على كل الأصعدة، وخرجت منتصرة بشكل غير منتظر، لكنها رغم ذلك تبقى دولة صغيرة في سياق إقليمي عربي معاد، وهو ما يفرض عليها اتباع سياسة دولية شديدة الحذر وشديدة المرونة تستنفر فيها كل قواها الناعمة، وخاصة منها القوة المادية ممثلة في جهازها الاستثماري الخارجي.

 

تبقى دولة صغيرة في سياق إقليمي عربي معاد، وهو ما يفرض عليها اتباع سياسة دولية شديدة الحذر وشديدة المرونة تستنفر فيها كل قواها الناعمة

عقدت قطر صفقات تسليح ضخمة مع كل القوى الصناعية الدولية، من أوروبا إلى أمريكا إلى الصين، مرورا بروسيا، وهي صفقات تضمن بها من جهة أولى تجديد وتنويع قدراتها العسكرية ضد كل عدوان محتمل، كما تحقق عبرها دعما سياسيا لمواقفها الدولية، وخاصة ما تعلق منها بمشاريع العدوان المعلنة ضدها، والتي بلغت منع مواطنيها من الحج والعمرة، وقطع حليب الأطفال عنها في شهر رمضان، هذا فضلا عن كل الانتهاكات التي ارتكبت في حق المواطنين وممتلكاتهم ومصالحهم.

ما تقوم به قطر هو محاولة لتوسيع هامش المناورة لديها؛ عبر ما توفر لها من القوى الناعمة في محيط شديد العداء، خاصة وأنها دولة صغيرة وعدد سكانها لا يتجاوز بضعة مئات الآلاف. دون ذلك، قد لا تتردد العصابات الدولية في مؤازرة المشاريع الانقلابية والأعمال العدوانية والتخريبية ضدها، وهو ما يهدد بنسف كل الثروة والبناء المنجز جملة وتفصيلا. لا تستطيع قطر أن تنجز أكثر مما أنجزته، لكنها تجد نفسها أحيانا تطور علاقتها مع إيران، وهي الدولة الوحيدة التي فتحت لها مجالها الجوي عندما خنقتها دول الحصار، كما تتقاسم معها أكبر حقولها الغازية.

ما تقوم به قطر هو أقصى ما يمكن لها أن تقوم به دولة في هامش المناورة الذي لديها، لكنها لا تمول الانقلابات على إرادة الشعوب، ولا تبيع النفط مجانا للصهاينة، ولا تحتل جزر اليمن وتقصف مدنه. قطر هي المنوال الذي يريد الاستبداد العربي شيطنته كما شيطن الثورات وشيطن كل القوى الحية الطامحة للتغيير، لكنه نسي أن الزمان غير الزمان، وأن السياق قد تغير، وأن العدّ التنازلي لمنوالات الاستبداد قد بدأ لحظة أخرج البوعزيزي ولاعته من جيبه ذات شتاء في تونس.