لم يكن قرار السلطات الكويتية بتسليم عدد من المعارضين السياسيين
المصريين لنظام السيسي هو الحالة الأولى، ولن يكون الأخيرة، في ظل تصاعد الضغوط من عواصم الثورة المضادة على بعض الحكومات التي غضت الطرف عن وجود هؤلاء المعارضين على أرضها من قبل، خاصة أنهم لم يرتكبوا أي مخالفات أو ما يسيء لحكومات أو شعوب تلك الدول، بل كانوا من بناة نهضتها وتقدمها.
الثمانية الذين أعلنت الكويت عن القبض عليهم يوم الجمعة، وقامت بترحيلهم إلى مصر بزعم صدور أحكام ضدهم، هم مواطنون مصريون مسالمون، دخلوا الكويت بطريقة مشروعة تماما؛ لا مخالفة فيها للقانون، وكان وصولهم إلى الكويت سابق على تلفيق الاتهامات لهم في القاهرة. ويعلم الجميع الآن كيف تلفق التهم للمعارضين السياسيين في مصر، وكيف تصدر الأحكام من دوائر غير مختصة، وبدون توفير ضمانات العدالة المطلوبة، ناهيك عن أن الأحكام التي استند إليها بيان الداخلية الكويتية هي احكام أولية وغيابية.
سبق للكويت أن قامت بتسليم مصريين محكومين بالحبس في تشرين الثاني/ نوفمبر 2015 وآب/ أغسطس 2017، لكن الجديد هذه المرة هو الطريقة الاستعراضية التي أعلنت بها وزارة الداخلية الكويتية عما وصفته بـ"خلية إرهابية تابعة لجماعة الإخوان المسلمين"، وأن هذه الخلية صدرت بحقها أحكام بالحبس تصل إلى 15 عاما في مصر، وأن المتهمين اعترفوا بالتهم الموجهة إليهم، فلأول مرة تستخدم الداخلية الكويتية هذه الطريقة وهذه المصطلحات التي هي سمة بيانات "الداخلية المصرية"، وكأن البيان قد كتب في مكتب الأمن الوطني بالقاهرة وبمفرداته المعتادة، حتى أن الضابط الكويتي الذي تلاه تلعثم في قراءة بعض الكلمات "الغريبة" على لسانه وعلى أذنه.
ووفقا لما نشرته وسائل الإعلام الكويتية نقلا عن وزارة الداخلية، فإن هؤلاء الثمانية متهمون في قضية مقتل النائب العام، وهي القضية ذاتها التي اتهم فيها (ظلما) العشرات من المصريين سابقا، قبل أن تستقر السلطة على قائمة متهمين ليس من بينهم هؤلاء المقيمين في الكويت، كما أن النظام أغلق القضية بإعدام تسعة من الشباب في شباط/ فبراير الماضي بتهمة قتل النائب العام.
لم تكن الكويت وحدها هي من فعلت تلك الفعلة الشنعاء بحق معارضين مصريين سلميين، فجارتها البحرين سلمت قبل بضع أسابيع مصريين، بينهم أستاذ كبير بكلية الطب، وسلم لبنان بعض المصريين. المحصلة أن المصريين المعارضين المقيمين في بلدان هشة يتعرضون لهذه العمليات بين الحين والآخر، ويحاول النظام المصري أن يثبت قدرته على ملاحقة خصومه السياسيين في البلدان الفارين إليها من جحيمه، لكن الحقيقة أن النظام لم يستطع ذلك إلا مع بعض الدول والحكومات الهشة؛ التي لم تحترم قوانينها الداخلية التي تلزمها بعرض مثل هذه الحالات على القضاء المحلي أولا (لم تعرض الحكومة الكويتية قرار
الترحيل على القضاء)، كما تفعل الدول الأوربية التي حاولت بعض حكوماتها مجاملة السيسي وتسليمه بعض المطلوبين؛ لكن القضاء في تلك الدول تصدى لتلك المحاولات ورفضها، ليقينه من عبثية الاتهامات المنسوبة للمعارضين السياسيين، ومن ثم عبثية الأحكام الصادرة بناء عليها، ولعلنا نذكر قصة الإعلامي احمد منصور والإعلامي عبد الرحمن عز والوزير الدكتور محمد محسوب، وأسرة مينا دانيال، وفي كل هذه الحالات فشلت محاولات النظام المصري في استلامها؛ بعد حملات قانونية وحقوقية قوية داعمة لأولئك المطلوبين.
يدرك المعارضون المصريون في الخارج أن معركتهم ضد النظام القمعي لن تتوقف بتركهم بلدهم، بل إنهم خرجوا بالأساس ليكملوا مسيرة المقاومة السلمية من الخارج؛ عبر الأدوات السياسية والإعلامية والحقوقية والقانونية المتاحة، وهم يدركون أن النظام لن يقف مكتوف الأيدي في مواجهتهم بل سيبذل قصارى جهدة، وسيمارس ضغوطا كبيرة على حكومات البلدان التي يقيمون فيها لتسليمهم، وهي معركة ستظل سجالا بين الطرفين، فلا المعارضون سيتوقفون عن معارضتهم، ولا النظام سيتوقف عن ملاحقته لهم، لكن الذين يقيمون في دول هشة لا تحتمل تلك الضغوط؛ عليهم التفكير في تغيير مقار إقاماتهم إلى دول أكثر أمنا، وأكثر قدرة على مواجهة الضغوط، واكثر احتراما لحقوق الإنسان. والخيارات واسعة بين الدول الأوربية وتركيا وماليزيا ودول أمريكا الجنوبية؛ التي لا تحتاج تاشيرات دخول للمصريين، والتي تسهل كثيرا إجراءات الإقامة فيها لزوارها من كل الجنسيات، كما هو الحال في البرازيل وتشيلي.. إلخ.
لا يحب المصريون بطبيعتهم الغربة، ولهم في ذلك تراث عريض من الشعر والغناء والفلكلور الشعبي، والروايات، ولذلك يرفض الكثيرون منهم طلب اللجوء السياسي أو الهجرة الدائمة، ويكتفون بالإقامات المؤقتة في بلدان المهجر حاليا، انتظارا لساعة العودة إلى وطنهم الذي لا يعدلون به وطنا. ولا يريد المعارضون المصريون المقيمون في الخارج أن يتحولوا إلى "مصريي الشتات"، وهم يثقون أن هذا النظام لن يعمر كثيرا، برغم كل تحصيناته العسكرية والأمنية وحتى الدستورية؛ لأنه ببساطة نظام يعاكس طبائع الأمور، ونواميس الكون، ويعاند إرادة المصريين في التحرر والانعتاق.
عقب ثورة 25 يناير 2011، شهدت مصر هجرة عكسية لأبنائها من الخارج إلى الداخل، وقد تنازل الكثيرون عن وظائفهم ورواتبهم وامتيازاتهم الكثيرة ليعودوا إلى وطنهم الذي شعروا بامتلاكهم له لأول مرة، وحوّل الكثيرون مدخراتهم واستثماراتهم إليه، ولكن بعد انقلاب الثالث من تموز/ يوليو 2013 تصاعدت موجات الهجرة إلى الخارج، ليتجاوز عدد المصريين في الخارج حاليا العشرة ملايين، (وفقا لرواية وزيرة الهجرة في تصريحاتها لموقع مصراوي بتاريخ 12 شباط/ فبراير الماضي تجاوز العدد 14 مليونا، وهوما يوازي عدد مواطني 4 أو 5 دول خليجية)، ومن المؤكد أن الرقم سيتضاعف حال بقاء هذا النظام فترة أطول لا قدر الله.