في يوم حار رطب من أيام صيف إسطنبول، التي تداري قيظ حرها بزينة من الورود والزهور تتوج بها شوارعها النظيفة المبهجة، ليزيدها بهاء يخطف العقل فينشغل عن وطأة الحر وقلة الهواء، وفي إحدى حافلات الركاب العامة المزدحمة بالعائدين من أعمالهم وقت الذروة في الساعة الخامسة، والذي زاد الحافلة حرا على حر الجو، رغم أنها مكيفة، فأنفاس الناس جعلت الحافلة نموذجا للاحتباس الحراري الذي يقاومه قادة العالم في مجموعة العشرين وغيرها من تلك المجموعات التي تضم كبراء العالم وصناع حضارتها، ويعقدون له اجتماعات دولية، رغم أنهم الفاعل الرئيس له، سألني ابني سؤالا وجوديا: لماذا لا نمتلك سيارة؟ وهو سؤال ارتبط بالحالة الديمغرافية والسوسيولوجية التي يعيشها الولد لحظة إلقائه السؤال.
في بدايات شبابي في السنوات الأولى للجامعة، آمنت بالفكر الاشتراكي الذي يعظم الملكية العامة على حساب الملكية الخاصة، ويعمل على امتلاك الشعب أدوات الإنتاج لتقسيم ناتج العمل على الطبقة العاملة لتحقيق العدالة الاجتماعية المنشودة.. آمنت بالفكرة رغم امتلاكي سيارة خاصة اشتراها لي أبي (رحمة الله عليه)، المهندس ومالك المصنع، كأحد مظاهر تأكيد الوجاهة الاجتماعية للعائلة، لكنني، وبحكم النشأة، أحببت الفقراء عندما وجدت أبي يغدق عليهم، ويرى في طلبة العلم منهم جسرا يقربه إلى الله.
لكني نظرت للفقراء بمنظور سياسي، بعد سياسة الانفتاح التي أصل لها الرئيس السادات وأكمل نهجها خلَفَه مبارك، وما نتج عنها من انهيار الطبقة الوسطى تدريجيا، وهي الطبقة التي تقوم بها المجتمعات وتتوازن بها القوى وتنتفض وقت اللزوم لتقويم الحاكم إذا انحرف، فوجدت في أفكار ماركس طوق النجاة لهؤلاء من جشع الطبقة الرأسمالية المتوحشة، كما كنت أصفها وقتها، ونجاة من تقلبات الحياة التي غالبا ما يتسبب فيها أباطرة العالم الذين يقررون فيكون ما يرغبون، لامتلاكهم أدوات القوة ومفاتيح التحكم، فإذا ما قرروا ان يشعلوا حربا غضبا على نظام، أشعلوها، وإن شاؤوا أن يطيحوا بنظام رتبوا الأوراق ودفعوا الشعب ليقوم بالمهمة، وتتحول أوضاع الناس وتتبدل حياتهم ويختلط حابلهم بنابلهم. فالملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها، وجعلوا أعزة أهلها أذلة.
وفي ظل هذه الفوضى تظهر طبقة تستطيع أن تتأقلم مع الوضع، بل وتتخذ منه موطنا، وتتحصل على غذائها من حصة ما يقتات منه المأزومون في هذا الوضع، لكن مشكلة هذه الطبقة أن المأزومين معدودون، ومهما تجددت دماؤهم أو ضخت الأوضاع المزيد من هؤلاء المأزومين، فلن تستطيع تلك الطبقة الطفيلية أن تستكمل دورة حياتها؛ لأن نهمهم لن يذكرهم الوصية الأبدية (فليأكل بالمعروف)، لذا فإنهم يحرصون على أن تستمر الأزمة أكبر وقت ممكن؛ لترمي بمزيد من الضحايا على شطآنهم ويعملون على تثبيتها.
وعلى الرغم من أن تلك الطبقة غنية، إلا أنها لا تستعفف ولا تأكل بالمعروف، بل ترى في مص دماء المأزومين فرصة تحولت مع الوقت إلى حق لا يجب أن ينازعهم فيه أحد، ولا يحاسبهم عليه أحد.
عرب الربيع العربي في المهجر يعيشون أوضاعا، يحسبها الظمآن، ممن يعيش في وطنه تحت نير الثورات المضادة، ماء؛ فيحاول الهروب إليه ليرتشف رشفة شق بها غصة حلقه، ويظن في المهجر جنة يمشي إليها ويُصدم عند الوصول.. عرب الربيع العربي خرجوا من بلدانهم طمعا في الأمان والحرية، فوجدوا أنفسهم في فخ صنعه بنو جلدتهم، فحوصروا بالخوف من فوات فرص العمل، وقمعوا بسوط لقمة العيش، وكأن أحدا ما يعمل على استنفاد الطاقات في غير الهدف المفروض. قد أكون مخطئا في القول إنها خدمة لأعداء الثورات، ولكن الأكيد أنها خدمة لذاتهم وحرصا على الإبقاء على المزيد من المؤونة، غير مبالين بثورة ولا مصير شعوب.
يا بني ما كان أبوك امرأ سوء وما كان طبالا شقيا.. يا بني عاش على هذه البسيطة مليارات البشر وماتوا، ولم يذكر التاريخ منهم إلا أصحاب المبادئ.. يا بني لأن أورثك سيرة طيبة خير لك من أن أورثك عقارا، أو سيارة، ولأن أعيش محشورا في حافلة ركاب أحب إليّ من أن أرفل في نعيم الطفيليين الذين يقتاتون على دم المأزومين من أصحاب المبادئ، لهذا يا بني لا نمتلك سيارة.