لعل المجلس العسكري الحاكم في
السودان، برئاسة "حميدتي"، فوجئ
باستجابة الملايين من الشعب السوداني لدعوة الخروج في
مظاهرات عمت الشوارع، ومثلت يوماً ثورياً بامتياز، فبدأ الحديث من جانبه بضرورة عودة المفاوضات!
فحمديتي كان قد استقر في وجدانه؛ أنه بخطابه المفكك وعباراته التائهة، نجح في إدخال الغش والتدليس على الشعب السوداني، وأنه حامي الشريعة، والمعبر عن
الثورة، ومن ثم لن يعود من جديد لطاولة المفاوضات. فالثورة أردت إسقاط البشير، ألا وأنه قد سقط، فإن أي كلام آخر هو من قبل المندسين. وكأن الثورات قامت لتجدد الثورة المضادة دماءها، فتسقط مبارك في مصر ليحكم عبد الفتاح السيسي، وتسقط علي عبد الله صالح في اليمن ليحكم خليفته منصور هادي، وتسقط البشير ليحكم حارسه الشخصي "
محمد حمدان حميدتي"؛ الذي من الواضح أن
قوى إقليمية ودولية أغرته بأنه البديل والخيار الاستراتيجي للبشير، فتم تكليف شركة كندية، يملكها ضابط مخابرات إسرائيلي، لتلميع صورته، ربما لأنه لم يصله بعد المثل المصري الشائع: "ماذا تفعل الماشطة في الوجه العكر"!
إهانة السودان:
لقد
دفع عداً ونقداً لهذه الشركة ستة ملايين دولار، ويبدو أن من دفعها هي الجهات الإقليمية التي تدفع به؛ لتهين السودان، وتهين شعبه، كما تهين ثورته بهذا الخيار الجاهل، الذي لا يفك الخط، ولو فكر الذين يقفون وراء عملية تلميعه، لوقفوا على أن شركات العلاقات العامة ليس بإمكانها أن تحول "البوصة" إلى "عروسة"، وأن الزعامة السياسية لا تستحدث من العدم. فقد رأت الدوائر الإقليمية والدولية أنه الخيار المناسب، ولو فكروا لعلموا أن أموالاً دفعت لشركة أخرى لتلميع صورة عبد الفتاح السيسي، فلم تتمكن من أن تصنع من الفسيخ شربات!
لم ينف المجلس العسكري ما نشر عن استئجار الشركة الكندية، لتلميع صورة "حميدتي"، الحارس السابق لعمر البشير، ولم يقولوا ما هو الأمر الذي يدفع لتلميع هذه الصورة، إلا إذا كانت النية مبيتة للانتقال به إلى مرحلة الرئيس الضرورة. ولم نكن بحاجة إلى مزيد من الأدلة، فالمذكور يتمدد في المشهد السياسي، مع تغييب كامل لرئيس المجلس العسكري
عبد الفتاح البرهان، ولا نعرف ما دُفع له أو أمسك منه ليتحول إلى "خيال مآتة". ولا أريد كتابة الوصف اللائق به، لأنني تذكرت أنني لم أكتبه في حالة المستشار عدلي منصور، رئيس المحكمة الدستورية العليا، الذي عينه السيسي رئيساً يفتقد للقدرة على دخول دورة المياه لقضاء الحاجة بدون إذن!
وإذا كان عدلي منصور قد جاء لهذه المهمة من خارج دائرة العسكر، فألا يستشعر البرهان الحرج، لصفته العسكرية، وهو يقوم بهذا الدور المهين؟ وأين المجلس العسكري؟ وما هو ثمن تركهم لزعيم عصابة ينتحل الصفة العسكرية ثم يتخطى الرقاب؟!
البرهان وطنطاوي:
إنها الخيارات البائسة لعمر البشير، وهي لا تختلف كثيراً عن خيارات مبارك، ولا يختلف برهامي عن طنطاوي، ولا غيره عن سامي عنان، فينبعث أشقاها هنا وهناك ليتمدد في المشهد، لكن في الحالة المصرية، فإن الحكم المدني هو الذي مكن السيسي من أن يكون الرجل الأول في الجيش، وبهذه الصفة قام بالانقلاب، لكن لا صفة تُذكر لحميدتي تمكنه من هذا الوضع عندما رحل البشير، إلا أنه وجد ضعفاً مكنه جهله من شق طريقه، ولم يضع في اعتباره أي شيء!
"حميدتي" يفكر إذن في الحكم، ولهذا فقد اعتبر أن الثوار سعيهم مشكور، وقد انتقلوا به إلى هذه المكانة، فأوقف المفاوضات، وأعتبر قوى الشرعية ليست تعبيراً عن الثورة؛ لأنه ليست كل الشعب السوداني، وكأن عصابته هي التعبير عن السودان، والتي تعبر عن إرادة شعبه!
تماماً كما روج المجلس العسكري بالباطل في مصر أنه حمى الثورة، ومن ثم وجد نفسه وقد حماها، فمن حقه أن يركبها منفرداً، ولا نصيب للثوار فيها!
كانت مليشيات حميدتي قامت بفض اعتصام قيادة الجيش بالقوة، والمؤسف أن الجيش لم يستشعر الحرج، لهذا التطاول على ساحته، وبما يعد خروجا على الأعراف والقيم العربية، ناهيك عن عقيدة الجيش، فهل لا تزال للجيوش عقيدة؟ مع أن الثوار عندما لجأوا لخيار الاعتصام في ساحة قيادة الجيش كان من باب الاستجارة بجيش الشعب، فلم يُجِرْه في مواجهة مليشيات القتل والتقتيل.
وقد ظن حميدتي أن طريقه أخضر لكرسي الرئاسة، بعد عملية الفض المجرم للاعتصام، وقتل المتظاهرين وإلقاء الجثامين في النيل، في عملية إجرامية لم يحاسب عليها، وذكرتنا بجريمة فض رابعة وأخواتها، فتراجع عن التفاوض، فتمت الدعوة ليوم ثوري كانت الاستجابة لها مفاجأة، رغم تهديد حميدتي بأن هناك مندسين، وهي إشارة بأنه سيقوم بقتل الناس، تحت لافتة المندسين، كما فعلها القوم في مصر تحت لافتة الطرف الثالث!
يا له من خطاب ساذج، ممن يفتقد للمهارة في الإبداع، فكرر كل خطابات الانقلابات العسكرية المستهلكة، ومن القاهرة إلى ليبيا، مع أنها فقدت صلاحية الاستخدام!
لقد خرج الملايين للشارع السوداني، على نحو كاشف بأن الثورة مستمرة، وأن القتل والتهديد به لن يخيف الشعب السوداني، ولن يمنعه من استكمال ثورته، ليخرج حميدتي في ذات اليوم وقد حشد الدراويش حوله، فأين رئيس المجلس العسكري؟ هل مات في ظروف غامضة؟!
المضحك أن ينبري درويش من هؤلاء ليطلب من جاهل السودان الأول الحفاظ على الشريعة، فاته أن الشريعة لو طبقت أحكامها لتم القصاص من حميدتي، بجريمة قتل سودانيين، والسعي في الأرض فسادا، ولو طبقت أحكامها لما جاز لمسلم أن يركن إلى الذين ظلموا.
لكنها أزمة قوى التغيير، الذي كانت تستهدف الإقصاء، فمكنت هذا "العتل الزنيم" من أن يكون له أنصار يطالبونه بحماية قوانين الشريعة، وهو خطأ يرتقي لمرتبة الخطيئة، فالثورة مطالبة بأن نفتح على جميع القوى المدنية، لفتح صفحة جديدة، للسودان المدني، ولم يكن لعسكري حقيقي أو منتحل صفة أن يسيطر على بلد إلا في وجود قوى مدنية تمثل غطاء لإجرامه!
ما علينا، فما رأى شيطان السودان أدحر ولا أغيظ منه في هذا اليوم؛ الذي تأكد فيه أن الثورة مستمرة.
لقد كان الأحد 30 من حزيران/ يونيو، يوماً ثورياً بامتياز في السودان.
فتحية للرجال.