يحكى في قديم ما جاء في
التراث الإنساني، في أصقاع شتى من العالم، أن أسدا هاجم قطيعا من ثلاثة ثيران،
أحدها أسود، والثاني أحمر، والثالث أبيض، فواجهته الثيران مجتمعة، فاندحر وعجز عن
الظفر بأي منها فريسة يأكلها.
حاول الأسد مرارا وتكرارا،
فما استطاع أن يحقق غايته أبدا، وعندها عرف أن الطريقة الوحيدة لينتصر هو أن تتفرق
هذه الثيران، ولا فرصة أمامه لتفريقها إلا بالوقيعة بينها.
قرر الأسد الذهاب إلى
الثورين الأحمر والأسود، فقال لهما: "والله ثم والله ثم والله... أنا لا أريد
منكما شيئا، ولا طمع لي في لحمكما، وما أريد إلا الثور الأبيض، سأموت من الجوع،
وعاجلا أو آجلا ستأتيكم الأسود وتلتهمكم جميعا بسبب هذا الثور الذي يكشف موقعكما
في الغابة ليلا، لونه الأبيض سيجلب لكما المتاعب من كل صوب، إنه مختلف عنكما، هل
رأيتما ثورا أبيض من قبل؟".
بعد إلحاح وإلحاح من الأسد،
وبعد برنامج مكثف من الوقيعة، وبعد تهديد ووعيد، ووعد بالسلامة والخير، اقتنع
الثوران الأسود والأحمر، وطلبا السلامة بدلا من مواجهة الأسد أو غيره من الضواري،
وسمحا للأسد بأكل الثور الأبيض، وقضى الأسد أياما في أُنس وشبع.
ولكن عضة الجوع عادت له بعد
عدة ليال، فانطلق يطلب لحم الثورين الباقيين، فصدّاه أيضا. صحيح أن الأمر كان أصعب
على الثورين، ولكن كانت الكفّة حتى ذلك الحين راجحة لهما!
علم الأسد أن لا وسيلة لملء بطنه سوى بالوقيعة بين الثورين كما فعل في المرة الأولى، فذهب للثور الأحمر وقال
له: "ما بالك تنطحني بقرنيك وأنا لم أقصد إلا الثور الأسود؟ لماذا تدافع عمن
سيجلب لك الخزي والموت؟ هذا الثور سيكشف مكانك في الصباح بسبب لونه الأسود، فلماذا
تفعل ذلك معي وأنا لا غرض لي تجاهك؟".
قال له الثور الأحمر:
"ولكنك قلت الكلام نفسه قبل أن تأكل الثور الأبيض"!
فأجاب الأسد: "والله
إني قادر على هزيمتكما معا، ولكني لم أشأ أن أخبر هذا الأسود الكريه بأنني أبغضه
لكي لا يعارض اتفاقنا السابق"!
فكر الثور الأحمر مليا،
وبعد ليال طلب السلامة والراحة، وخاف من مواجهة الأسد أو غيره من الضواري، وقبل أن
يؤكل صاحبه الأسود.
جاع الأسد بعد ليلة أو
ليلتين، لا فرق! فانقض على الثور الأحمر ينهشه دون مقدمات، ولكنه سمع الثور يقول
مع حشرجة الموت "أُكلتُ يوم أُكِلَ الثورُ الأبيضُ"!، فاستغرب الأسد،
وسأل الثور: "ولِمَ لَمْ تقل الثور الأسود؟ فعندما أكلتُهُ أصبحتَ وحيداً،
وليس عندما أكلتُ الثورَ الأبيضَ"!
فقال له الثور الأحمر: "لقد
تنازلت عن المبدأ الذي كان يحمينا معا، وفي اللحظة التي أعطيتك فيها الموافقة على
قتل الثور الأبيض وأكله؛ أعطيت لك الإذن بقتلي وأكلي"!
وللقصة روايات متعددة، كلها
تصب في النهاية في عبرة واحدة، وهي ضرورة توحد "الثيران"، كل الثيران،
ضد "المفترسات"، أيا كانت، وأن التنازل عن مبدأ الاصطفاف والتوحد هو
بداية لالتهام الجميع!
* * *
مظلوم هذا الثور الأبيض في
مصر!
كلٌ يزعم أنه الثور الأبيض،
كلٌ يزعم أنه قد أكِلَ أولا، والكلُّ يتهم "الثيران" الأخرى بأنها قد
عقدت صفقات مع "الأسد"، فترى سائر التيارات والجماعات تدعي مظلومية
سياسية (لها ما يثبتها من الواقع)، حتى يكاد المرء يحتار... من هو الثور الأبيض
حقا؟
في آذار/ مارس 2011م، قام
السيد اللواء عبد الفتاح "سيسي"، رئيس المخابرات العسكرية في ذلك الوقت،
بانتهاكات موثق باعترافه هو شخصيا في فضيحة تسمى "كشوف العذرية".
لو تجرأنا وسألنا: كم فتاة
تنتمي للتيار الإسلامي كانت ضمن الفتيات المعتدى عليهن؟
الإجابة... صفر!
هذا السؤال يجرنا لسؤال آخر:
هل استنكر الإسلاميون ما حدث للآخرين؟
ستجد الإجابة "تقريبا
لم يستنكر أحد"... هناك استثناءات بالطبع، ولكنها قليلة.
هل يمكن أن نفهم لماذا
أصبحت المرأة هدفا للاعتداء فيما بعد؟ وأصبحت غالبية الانتهاكات ضد نساء ينتمين (بشكل
أو بآخر) للتيار الإسلامي؟
* * *
بعد انقلاب الثالث من تموز/
يوليو 2013م، وبعد أن ظهرت حقيقة النوايا، وبدأت البنادق بحصد الأرواح بالمئات،
علنا، أمام الشاشات، على الهواء مباشرة، وبعد أن بدأت إجراءات استثنائية لا مثيل
لها في تاريخ مصر الحديث (قتل، سجن، إخفاء قسري، مصادرة أموال، نفي، منع من
السفر... وإلى آخر القائمة الطويلة من الانتهاكات الموثقة)... لو تجرأنا وسألنا:
كم فردا ينتمي للتيار "المدني" كان ضمن الضحايا (أعني بعد الانقلاب
مباشرة)؟
الإجابة... صفر!
وكما في الحالة الأولى...
نجد السؤال يجرنا لسؤال آخر: هل استنكر التيار المدني ما حدث للإسلاميين؟
ستجد الإجابة كما في
النموذج الأول "تقريبا لم يستنكر أحد"... هناك استثناءات بالطبع، ولكنها
قليلة (برغم أن حجم الانتهاكات كان أضخم من أن يسكت عليه، بسبب حجم الفريسة)!
هل يمكن أن نفهم الآن لماذا
اعتقل شخص مثل الناشط زياد العليمي؟ ولماذا مُنِعَتْ ناشطة مثل إسراء عبد الفتاح
من حقها الدستوري في السفر؟ ولماذا صودرت أموال شخص مثل الحقوقي جمال عيد؟ ولماذا
اضطر آلاف إلى اللجوء إلى منفى قسري؟
* * *
ما أريد أن أقوله باختصار... المفترس واضح، ونواياه واضحة، ولم يتمكن من
ملء بطنه من لحومنا إلا بعقد الصفقات وتفريقنا.
والثيران أراها في المرعى،
وما بقي من الثيران ما زالت لديها فرصة الاتحاد أمام الأسد، بدلا من اللجوء إلى
إصدار بيانات ساذجة تؤكد على أن لون الثور المأكول ليس من فصيلة الثيران البيضاء
أو السوداء، أو بالتأكيد على أن طعم لحمها ليس جيدا كالثيران التي قبله.. الأسد لا
يفرق بين ثور وآخر بلونه، الأسد لا يعرف في الثور إلا أمرين... الأول قرونه التي
تنطح، والثاني لحمه الذي يؤكل، وبالتالي... لا يمكن أن تتعامل مع الأسد إلا بإظهار
قرونك أيها الثور الذكي الحصيف!
كلنا ثيران... هذا ثور
إسلامي، وذاك ثور ليبرالي، والآخر ثور مستقل... الخ.. ولا طريق أمامنا سوى أن نتحد
في وجه من يرغب في افتراسنا، وكل من يتوهم أن بإمكانه أن يعقد صفقة ما مع الأسد...
ما هو إلا "ثور"... يستحق أن يؤكل!
ملحوظة: كلي ثقة أن كثيرا
من التعليقات على هذه المقالة ستكون جهدا مضاعفا من البعض لإثبات أن فريقه أو حزبه
أو جماعته هي الثور الأبيض.. وأن الآخرين يستحقون أنياب الأسد... لهؤلاء أقول: "عد
أن أصبحنا جميعا فرائس.. لا فرق من الذي التهمه الأسد أولا.. كلنا ثيران في نظر الأسد، ولا نجاة لنا إلا بأن
نشعر بتلك الرابطة، وإلا فليهنأ الأسد بلحمنا... جميعا"!
موقع الكتروني: www.arahman.net
بريد الكتروني: arahman@arahman.net