ابتلى الله السودان مجددا بطغمة عسكرية، حلّت قبل شهرين وبضعة أيام محل حكومة العسكري عمر البشير، بزعم أنها جزء من الحراك الشعبي، الذي استبسل لإزاحة البشير على مدى أربعة أشهر، ثم طفقت تلك الطغمة في استهداف الثوار عصب ذلك الحراك، وصولا إلى تقتيل وجرح المئات منهم في فجر اليوم الأخير من رمضان.
قول العسكر وفعلهم
"أسمع كلامك يعجبني؛ أشوف أفعالك أتعجّب"، مثل شعبي بليغ عن مخالفة القول للفعل، ولكن وفيما يلي العسكر الذين استولوا على الحكم مؤخرا في السودان لا كلامهم ولا أفعالهم تثير الإعجاب، ففي هذين الصددين ينطبق عليهم المثل المصري "يقوم من نقرة يقع في دحديرة".
الجندي النظامي يرفع السلاح ضد مواطنيه في غالب الأحوال بأوامر ممن بيدهم الحل والعقد من السياسيين،
تاريخ الجيوش العربية
صدر لكينيث بولاك الضابط السابق في المخابرات المركزية الأمريكية بالإنجليزية كتاب "تاريخ جديد للجيوش العربية"، يطرح فيه السؤال: لماذا ظل أداء الجيوش العربية ضعيفا؟ ويستدل بولاك، الذي يعتبر من العارفين بأمور الحكم والسياسة في الشرق الأوسط، في عجالة بالأداء الضعيف للجيوش العربية في حروب 1956، و1967، و1973، وحرب العراق مع إيران، ثم حرب ليبيا مع تشاد (انتهت بوقوع القائد العسكري للجانب الليبي خليفة حفتر في قبضة القوات التشادية).
في حكم النادر أن تجد ضابطا في القوات المسلحة يتخطى رتبة عميد ما لم يكن مرضيا عنه من قِبل الحكومة المعنية
ينفي بولاك تماما الجبن عن الجندي العربي، بل يقول عنه إنه مصادم ومقدام في ساحات القتال
في الحرب بين إيران والعراق كانت ضربة البداية للعراق بطلعات جوية وهجمات أرضية حسنة التنسيق والإعداد، ولكن الرئيس العراقي الراحل صدام حسين الذي لم تكن لديه أي خبرة عسكرية، ظل يتدخل في أمر إدارة وتقييم المعارك، فصار كبار ضباط الجيش العراقي يتبارون لاكتساب مرضاته بالانصياع لتوجيهاته، أو عدم الاعتراض عليها حتى وهم يدركون أنها ستكون كارثية العواقب، وقد كان في حرب 1973 نجح القادة المصريون في عبور قناة السويس شرقا وتدمير الاستحكامات الإسرائيلية في غرب سيناء، ولكن الرئيس المصري أنور السادات الذي هجر العسكرية قبلها بواحد وعشرين سنة وهو برتبة بكباشي (مقدم)، تولى بعد ذلك إدارة العمليات الحربية، فكانت النتيجة أن قام الجيش الإسرائيلي بعبور عكسي إلى غرب القناة واحتلال جانب منها، فيما باتت تُعرف بثغرة الدفرسوار.
في عام 1987 قرر الزعيم الليبي معمر القذافي شن حرب على تشاد لاحتلال منطقة أوزو، ورغم أن الجيش الليبي كان متخما بالعتاد الحربي، إلا أنه كان قد خضع للتجريف في ظل سياسات القذافي الرامية لتدجينه حتى لا ينقلب عليه، وزج القذافي بالجيش في تلك الحرب تحت قيادة سياسية فكان أن مُنِيَ بهزيمة مخزية.
والشاهد: إذا كانت قيادات الجيش السوداني اليوم تبدي عداء للمواطنين الذين ينشدون الحرية وتغيير الحال الراهن، ويتكشّف عجزها في كل ميدان تحاول ولُوجَه، فمنشأ هذا تربيتهم؛ فهم كرفقائهم في بقية الجيوش العربية، تربوا على السمع والطاعة لصاحب السلطة السياسية، فصاروا بلا إرادة، وبلا دراية في الشؤون العسكرية والمدنية.
ونجح العصيان المدني.. السودان ليست مصر!
الأفارقة أكثر ديمقراطية من العرب