لم يخيب عسكر السودان، ممثلين في المجلس العسكري، الذي انقلب على حكم الرئيس عمر البشير، في أعقاب ثورة شعبية عارمة، سوء ظن جماهير الثوار به، من حيث أنه امتداد لنظام البشير؛ والمجلس لم يعد رافضا تسليم السلطة للقوى المدنية التي قادت الثورة، بالإصرار على أن يبقى مجلس رئاسة الدولة (السيادة) تحت سيطرة العسكر، بأن تكون غالبية عضويته من جنرالات الجيش وأن يكون رئيسه عسكريا، بل قرر الدخول في مواجهة وتحديات مع الثوار، بأن بدأ في الغزل المكشوف مع مؤسسات وشخوص متنفذين من نظام البشير.
حصاد ثلاثين سنة
حكم البشير وجلاوزته السودان لثلاثين سنة، دمروا خلالها أجهزة الدولة والمؤسسات والمشاريع الاقتصادية باسم الخصخصة، ومارسوا النهب العلني لموارد البلاد على محدوديتها، وباعوا جنوب البلاد أرضا وشعبا طلبا لمرضاة الولايات المتحدة، وأشعلوا حروبا في مختلف أنحاء البلاد هلك فيها أكثر من مليون شخص، ولكن المجلس العسكري الانتقالي، الذي صار حكومة الأمر الواقع في السودان، يرى أن اثنين وعشرين شخصا فقط من أقطاب ذلك النظام مكانهم السجن للتحقيق في ما اقترفته أيديهم.
ومنذ انطلاق الثورة الشعبية في كانون أول/ ديسمبر من العام الماضي وحتى إزاحة البشير من الحكم، قتلت قوات الأمن زهاء ستين شخصا، ومع هذا لم يجد العسكر حرجا في أن يجعلوا مدير جهاز الأمن، الجنرال صلاح قوش، عضوا في مجلسهم الحاكم، ولما تعالت صيحات الاستنكار، أزاحوه، ولما طالبت الجماهير بالاقتصاص منه بوصفه من جيَّش جيوش القتلة لقتل وتعذيب المتظاهرين، صرح الناطق الرسمي باسم المجلس بأن الرجل رهن الاعتقال التحفظي المنزلي.
قصة قوش
وبعد أقل من أسبوع على هذا التصريح، تواترت الأنباء عن لقاء بين قوش وكبار ضباط جهاز المخابرات المصرية، ثم مغادرته القاهرة إلى واشنطن، حيث اجتمع بقيادات أجهزة المخابرات الأمريكية، وطالما أن هناك أدلة مادية بأن المجلس العسكري هذا يأتمر بأمر جهات خارجية، تعهدت بلعب دور "الكفيل" له، فهل من المستبعد أن قوش هذا موفد من قبل المجلس للحصول على ضمانات تأييد جازمة من سيسي مصر وترامب واشنطن؟
المجلس العسكري قرر الدخول في مواجهة وتحديات مع الثوار، وبدأ في الغزل المكشوف مع مؤسسات وشخوص متنفذين من نظام البشير.
الإضراب العام والعصيان المدني
إزاء رفض المجلس العسكري القاطع لأي مقترح يفضي إلى أن يحظى المدنيون حتى بمقعد واحد أكثر مما يحظى به العسكريون، طرحت قيادات الحراك الشعبي في السودان خلال الأيام القليلة الماضية الإضراب العام والعصيان المدني كآخر سلاحين في ترسانة الحراك السلمي، لإجبار العسكر على التراجع عن محاولات احتواء الثورة الشعبية أو فرض وصاية على من قاموا بها.
هنا استشعر العسكر الخطر، فالعصيان المدني يعني إصابة جميع مفاصل البلاد بالشلل، ويعني أن الجماهير المتوقفة عن أنشطة كسب العيش ستكون قادرة على تسيير مواكب لا قِبل للعسكر بها، فما كان من المجلس العسكري إلا أن أصدر يوم الأربعاء الماضي قرارا بالتراجع عن قرار سابق بتجميد الاتحادات والنقابات المهنية والطلابية والحرفية، كان قد صدر قبل أقل من شهر، باعتبار أنها تنظيمات الغاية منها تفريغ العمل النقابي من محتواه، وتنصيب طبالين للحكومة قيادات نقابية، كما أن تلك التنظيمات تدير موارد مالية ضخمة بأساليب أقل ما يقال عنها إنها مشبوهة.
لمداراة سعيه للاستقواء بنقابات البشير في مواجهة خطر العصيان المدني المرتقب، قال المجلس العسكري: إن قوانين العمل الدولية تنص على وجود تنظيمات نقابية، وأن تلك التنظيمات تمثل شرائح من السودانيين في الخارج.
ولكن القوانين الدولية تنص على وجود برلمان في كل دولة، والمجلس العسكري حل برلمان البشير، والمجتمع الدولي لا يعترف بنظام حكم لا يقوم على دستور، وعسكر السودان عطلوا دستور البشير، ولم يفتح الله عليهم ولا بإعلان دستوري.
المجلس العسكري بقيادة الفريق أول عبد الفتاح البرهان، يمارس قدرا كبيرا من الصلف وغطرسة القوة وهو يتشبث بالحكم، ويحسب أن الإبقاء على مؤسسات ومنظمات حكم البشير سيشكل سندا له، ولو كان في تلك المنظمات والمؤسسات "خير" لساندت البشير الذي أنشأها ورعاها.
عسكر الخرطوم والطبع الذي يغلب التطبُّع
مثقفو الاستبداد يعجلون بنهايته
عسكر السودان والتبرير بغرض التغرير