راشيل كوري، شابة أمريكية تركت حياتها المريحة في بلدها وقدمت عام 2003إلى المدينة التي نشأتُ فيها "رفح"، لتتضامن مع السكان الذين يهدم جيش الاحتلال بيوتهم، فكان أن قتلها سائق جرافة صهيوني دهساً.
دفعت راشيل حياتها ثمن موقفها الأخلاقي، إذ لم تستطع البقاء صامتةً وهي ترى إخوانها في الإنسانية يتعرضون للاضطهاد، بل إنها لم تكتف بالتضامن معهم بالوقفات الاحتجاجية والأنشطة الإعلامية، فلم يسكن ضميرها إلا بمشاركة الحياة الخطرة التي يعيشونها واقتسام الموت معهم.
شعرت برغبة عميقة في التعبير عن امتناني للشهيدة راشيل، فراسلت والديها معبراً عن رغبتي في لقائهما خلال زيارتي إلى الولايات المتحدة، جاء ردهم سريعاً بأنهم سيكونون سعداء بهذا اللقاء. وكان الاتفاق على اللقاء في محطتي الأخيرة في مدينة أطلنطا بولاية جورجيا جنوب البلاد. ظننت أنهم يقيمون في تلك الولاية أو قريباً منها، لكني فوجئت حين التقيت بهم أنهم أتوا من مدينة أولمبيا بولاية واشنطن، في شمال غرب الولايات المتحدة، في رحلة استغرقت خمس ساعات طيران!
أخجلني هذا الموقف، خمس ساعات طيران وتكلفة طيران وإقامة ربما جاوزت الألفي دولار؛ من أجل لقاء ناشط
فلسطيني شاب جاء من المدينة التي قتلت فيها ابنتهم! بالتأكيد هذا كثير، ولكنه يدل على كرم نفوسهم. عبّروا لي عن الإلهام الذي أمدتهم به مسيرة العودة الكبرى، وقالوا إنهم سيزرعون أشجاراً بأسماء شهداء المسيرة في ذكراها السنوية الأولى، وهو ما فعلوه فعلاً.
لقد كانت راشيل كريمةً جداً معنا حين دفعت حياتها من أجلنا، واليوم يثبت والداها أنهما كريمان معنا أيضاً..
أمثال راشيل كوري ووالديها لا يمثلون الأغلبية العددية في العالم، لكن هؤلاء هم مصدر الإلهام لنا في وحشة هذا العالم، وهم الذين يذكروننا بالجمال الإنساني مهما طغى القبح.
في اليوم التالي زرنا، برفقة والدي راشيل كوري، متحف وقبر مارتن لوثر كينغ في مدينة أطلنطا. مارتن لوثر كينغ هو من أولئك الناس الذين حسموا صراعاتهم النفسية وفاضوا على العالم بطاقة من الحب والسلام. هذا الرجل تبنى الحب فلسفةً، وكرس حياته لمناهضة ما أسماه ثلاثي الشرور في المجتمع "الفقر والعنصرية والحرب"، وكان للحركة الاحتجاجية السلمية التي قادها الدور الرئيس في نيل الأمريكيين الأفارقة حقوقهم المدنية.
على جدران المتحف، قرأت المبادئ الستة لمنهج اللاعنف التي أعلنها مارتن لوثر كينغ.
المبدأ الأول: "إن اللاعنف طريقة حياة، وهو فاعل روحياً وعقلياً وعاطفياً".
المبدأ الثاني: "النتيجة النهائية للاعنف هي المصالحة، وهو يهدف إلى إنشاء مجتمع محب".
المبدأ الثالث: "إن اللاعنف يهدف إلى هزيمة الظلم وليس الناس، وإن الأشرار أيضاً ضحايا، لذلك يهدف اللاعنف إلى هزيمة الشر وليس البشر".
المبدأ الرابع: "إن اللاعنف يتقبل المعاناة دون انتقام، ويرى فيها فرصةً تعليميةً وتحويليةً".
المبدأ الخامس: "يختار اللاعنف المحبة بدل الكراهية، ويقاوم اللاعنف العنف الروحي تماماً مثلما يقاوم العنف البدني. الحب اللاعنفي هو حب عفوي غير أناني، وخلاق".
أما المبدأ السادس؛ فهو أن منهج اللاعنف يؤمن أن الكون منحاز إلى جانب العدالة، والمقاوم اللاعنيف لديه إيمان عميق بأن العدل سينتصر في نهاية المطاف، اللاعنف يؤمن بأن الله هو إله العدل.
هذه المبادئ الستة اتخذها مارتن لوثر كينغ طريقة حياة، وهي مبادئ جذابة للروح وملهمة. وكما يتبين من أقواله، فهو قد استلهم طريقته من تعاليم المسيح عليه السلام.
"جويس كاسل" سيدة أمريكية استضافتني في بيتها؛ تبلغ 74 عاماً، ومع هذا العمر المتقدم، فهي تتميز بالصحة والنشاط، تستيقظ كل يوم في السادسة صباحاً وتقرأ في الكتب أو مواقع الإنترنت، تقود السيارة وتساهم بأنشطة تطوعية في الكنيسة وفي المجتمع.. حين عبرت لها ولزوجها عن امتناني لكرم ضيافتهما، أجاباني بصدق بأنهما ممتنان لإقامتي في بيتهما، وأن صنيعهما معي قد جعل لحياتهما معنىً. بعد مرور وقت كاف، لاحظت أن العمل التطوعي ثقافة يمارسها كثير من الناس، وأنه يلبي حاجةً روحيةً في نفوسهم، فالإنسان قد صممه الخالق على التكامل مع الخلق، وهو يشعر بالسلام إذا فاض على الناس بالمحبة والخدمة.
حين زرنا سان فرانسيسكو، نزلنا في بيت زوجين يهوديين شابين. يعمل الزوج نوعام في جمعية AFSC.
قضينا في ضيافتهما يومين. كان في البيت طفلة في الخامسة من عمرها. كانت علاقة الزوجين مع هذه الطفلة الصغيرةً متفجرةً بالحب والحنان والاهتمام، كلما رأت الطفلة الأب أسرعت تحتضنه بقوة، وكلما غادر البيت بكت. ظننت في البداية أنها ابنتهما بالوراثة، لكني عرفت أنها ابنتهما بالتبني.
عجبت من قوة عاطفة الزوجين تجاه طفلة ليست من صلب الأب أو رحم الأم. قال لي نوعام إنه متعاطف معي بسبب بعدي عن أطفالي منذ أكثر من ثلاثة أشهر، وإنه لا يتصور أن يبتعد عن طفلته هذا الزمن.
في نيو مكسيكو، قابلنا أيضاً أماً كرست رسالتها في الحياة لاحتضان الأطفال ورعايتهم، سألت هذه السيدة واسمها "سايرا"؛ كيف تتحمل إزعاج الأطفال وبكاءهم، فقالت إنها تشعر بحب تجاههم، وإنها تحزن حين يغادرونها.
التبني قصة ملهمة لأنها تكشف أن طاقة الحب في الإنسان تتجاوز الحقل البيولوجي إلى الفضاء الروحي، فالطفل بالتبني ليس من جينات الأبوين اللذين يتبنياه، ومع ذلك يودعانه كل طاقة الحب والرعاية، ويورثانه ما يمتلكان من أموال.
التبني هو تجل للحب الذي أودعه الله في الإنسان تجاه شركائه في الروح الإنسانية الواحدة، وهو فعل إنساني راق لأنه يدل على تحرر صاحبه من عنصرية القبيلة والعائلة، فهو يبث الحب والتربية لطفل من سلالة مختلفة.. هذا التبني هو حل فعال للأزواج للذين لا ينجبون في مجتمعاتنا العربية، فبدل أن يبددا عمريهما متحسرين، يمكن أن يجدا طفلاً يتيماً أو فقيراً يعيش ظروفاً صعبةً، فيودعانه عاطفتهما واشتياقهما، وينقذانه من الحرمان والضياع.
في مدينة "سان تا فيه"، في جنوب البلاد، زرنا كنيسةً لإلقاء محاضرة فيها، في الحائط الخلفي للكنيسة تقع لوحة إعلانات، إحدى هذه الإعلانات كانت "تعرف على الإسلام"!
"تعرف على الإسلام" داخل الكنيسة! أيقظ هذا الإعلان فضولي، فاقتربت منه وأخذت أقلب صفحات نشرة معلقة، كانت هذه النشرة تشرح مبادئ الإسلام وأهم تعاليمه، وتفصل رؤيته لعيسى عليه السلام. هذه النشرة كتبت بلغة منصفة تماماً، بما يدل على أن الكاتب مسلم استعانت الكنيسة بفهمه للإسلام.
ألهمتني فكرة إعطاء مساحة للآخر للحديث عن نفسه بنفسه.. تذكرت ما سمعته من النائب سيد أبو مسامح قبل عشرين عاماً: "إذا أردنا أن ينشأ أبناؤنا أقوياء فكرياً، فعلينا أن نتركهم يتعرفون بأنفسهم على الأفكار المختلفة من مصادرها. علينا أن ننظم لهم لقاءات مع أصحاب قيادات الحركات السياسية المختلفة".
لكن الحقيقة أن أفكار السيد أبو مسامح لا تمثل النمط الغالب في التفكير عندنا.. إعطاء فرصة للآخر للحديث عن نفسه دلالة متانة النظام الفكري والحضاري لمن يفعله. إن القوي لا يخشى من الانفتاح؛ لأنه يملك من عناصر الجاذبية، ما يدفعه للثقة بقدرته على الحفاظ على نظامه في وسط منافس، بل واستثمار هذه المنافسة لمصلحته.