بعد أن كتبت المقالة السابقة حول "قصة السيستم"، هممت بأن أغلق باب الحديث في هذا الموضوع الذي شكل بأحداثه حالة كاشفة واضحة وفاضحة لما يسمى بـ"السيستم" في
مصر، وظننت أنني بكتابتي هذه القصة والسردية؛ قد أنهينا باب الحديث في هذا الموضوع وتلك القضية، إلا أن حدثين من توابع "قصة السيستم" قد وقعا ضمن سلسلة من الأحداث؛ لا يمكن بأي حال من الأحوال تغافلهما أو عدم الاهتمام بهما، ومن ثم كانت توابع الحدث لا تقل أهمية عن الحدث ذاته بتطوراته. فما بين إعلان فشل عملية
التطوير عن طريق التابليت وما بين إنكار ذلك؛ كانت تلك العصا الغليظة التي برزت لتؤكد على حالة "السيستم" القسري والإكراهي الذي يستخدم أدواته الأمنية في النهاية ليكتب الفصل الأخير، إما بتدخل الشرطة أو تدخل
العسكر.
في هذا المقام، نذكركم بمشاهد أخرى سبقت حول صناعة الفشل في إطار الإدارة المدنية، وهو ما يعقب كل فشل، بالمطالبة بأن يقوم العسكر بإدارة حياتنا المدنية وأجهزتنا الخدمية؛ لأنهم عنوان النجاح والفلاح والقدرة على العمل والإنجاز. أما تصدير الصورة التي تتعلق بفشل الجهاز المدني والإداري في هذا المقام، فإنه جزء لا يتجزأ من عملية كبرى منظمة وممنهجة، ألا وهي عسكرة المجتمع وعسكرة كافة مؤسساته؛ ليس فقط بشكل مباشر، ولكن بأشكال أخرى غير مباشرة، وفي كل مرة ستعزف الجوقة الإعلامية نفس المعزوفة: فليتول تلك الأجهزة الخدمية عسكري يحقق النجاح ويحدث الإنجاز، صار ذلك أمرا معتادا في كل مرة وبعد كل حين حينما تحدث أزمة هنا أو كارثة هناك.
نذكّر في هذا الشأن بحدثين؛ الحدث الأول وقع في العام الماضي مع تسريب الامتحانات، في ما عُرف بأحداث "شاومنج"، وهي عملية تسريب منظمة. وفي هذا المقام، خرجت الأصوات عالية من كل مكان؛ من جوقة الإعلاميين الذين هم في حقيقة الأمر لا يمارسون "إعلاما"، ولكنهم يمارسون "إعلانا" بإعلانات متواصلة عن ضرورة أن يتولى وزارة
التعليم عسكري، رغم أنه من المعروف أن مجموعة من اللواءات تقطن القلعة التعليمية منذ فترة طويلة من الزمن. صحيح أن هؤلاء لم يتولوا منصب الوزير، إلا أنهم يتولون مناصب أخرى كتنفيذيين ومستشارين في وزارة التربية والتعليم، ولكن كان القرار في حينه (حتى يتم منع تسريب الامتحانات) بأن أُعطيت التوجيهات بأن تقوم مطابع بعض الأجهزة الأمنية بطباعة الامتحانات.. هكذا تفتق ذهن العسكر لمواجهة مشكلة التسريب، ومن المؤسف حقا أن تستمر عملية التسريب للامتحانات رغم ذلك.
أما الحدث الثاني فإنه تمثل في حادثة القطار الأخيرة. ورغم أن وزارة النقل مسكونة برتب عسكرية مختلفة (لواءات وعمداء وعقداء) تتولى مناصب داخل وزارة النقل، ربما يتعدى عددها السبع عشرة رتبة عسكرية أو أمنية، إلا أن الجوقة الإعلامية التي "تحفظ لا تفهم"؛ قامت بتقديم أسطوانتها المشروخة ومعزوفتها المأثورة: "العسكر هم الحل".. العسكر هم من يصلحون لإدارة هذه المؤسسات المدنية، وأتى بعد ذلك عسكري اسمه "الوزير" ليكون وزيرا للنقل، وصار هذا الأمر كأنه سياسة متبعة واستراتيجية مرعية ضمن عملية كبرى وممنهجة لعسكرة المجتمع بكامل مؤسساته الخدمية والمهنية، حتى لا نرى في مؤسسة إلا عسكرا أو رتبا أمنية يقومون على إدارة هذه المؤسسات، كعنوان على فشل الإدارات المدنية في الأداء والإنجاز.
ومع صناعة الفشل تولد ثقافة أخرى؛ تؤكد أن السيسي ومنظومته أو نظامه لا يفشل، فإن فشل فلا ينهض به إلا العسكر. هذا الأمر شكّل في حقيقة الأمر حالة نشاهدها مع كل قصة من تلك القصص التي شاهدناها من قبل، حتى في لبن الأطفال وفي مناحٍ أخرى لا يمكن أن يُصدق أحد أنها من اختصاص العسكر أو يتدخلون فيها وفي مساحاتها.. ولكنه المثلث عندما يكتمل.. فما يحرك بعض هذه القرارات التي تتعلق بدخول العسكر في تلك المساحات؛ إنما يتعلق ليس فقط بمحاولة العسكرة والسيطرة، ولكن بمنطق التربح والسبوبة. هذا الأمر الخطر أنتج ما يمكن أن نسميه ثقافة الإنكار المركبة، فمن جوقة الإعلام المستنكرة تولد عمليات إنكار مستعجلة، وربما جاهزة أيضا.
نعود إلى "قصة السيستم" من جديد لنتعرف على ملامح ثقافة الإنكار في هذا الشأن، ونشير في هذا المقام إلى حدثين متناقضين في الظاهر؛ إلا أن المثلث الذي أشرنا إليه من صناعة الفشل والترويج للعسكر والسبوبة إنما يفسر في حقيقة الأمر تناقض هذه المواقف، من دون أن تتناقض في الأداء وفي المطلوب من نظام العسكر؛ لإثبات فشل الإدارة المدنية في التعامل مع المشاكل والقضايا وإخفاق تلك المؤسسات التي تتعلق بأداء الخدمات والإنجاز فيها، فإذا ما استقر معنى الفشل طالب هؤلاء بتولي العسكر، فإذا ما حدث ذلك أو لم يحدث واستقر الأمر على استمرار الحال، فإن الأمر يتعلق هنا بإنكار الفشل.
إن الحدث الأول الذي أردنا الإشارة إليه؛ إنما يتعلق بإعلان الوزير الذي امتشق غزوة التطوير أن "السيستم وقع" وأن "التجربة ربما فشلت"، واستجدى لذلك أسبابا عدة متناقضة، يعود بعضها إلى هؤلاء الذين هجموا على السيستم بقصد وقوعه؛ وبعضها يعود الى عدم استطاعة الوزارة دفع أجرة الإنترنت، وبين أسباب واهية انتحلها من كل مقام أراد بها أن يمرر هذا الفشل المتكرر بعد أن أٌحيط به مع وقوع السيستم أكثر من مرة وفشله في تجربته، وقرر أن يعلن الفشل التام وأن هذه لم تكن إلا محاولة تجريبية وأنه قد يعود إلى الممارسة التقليدية للامتحانات الورقية وليست بـ"التابليت"؛ هذا كان الحدث الأول في إعلان الفشل.
أما الحدث الثاني، فربما لم يرق للبعض هذا الإعلان عن الفشل، وربما لم يكن مأذونا للوزير أن يعلن ذلك. وهنا واصل هؤلاء في عناد وكبر، مستمرين في هذا التطبيق الفاشل لذلك النظام، مما ألجأ طلاب السنة الأولى الثانوية إلى الاحتجاج في أماكن كثيرة؛ بعضها أمام المحافظات، وكان أهمها أمام وزارة التربية والتعليم. وهنا أكد هذا النظام، رغم أن "السيستم وقع" وعملية التطوير قد فشلت؛ أننا لا نفشل، ومن هنا برزت مشاهد العصا الأمنية الغليظة لتواجه الطلبة الصغار. ووفقا للقانون، فيعتبر هؤلاء ويوصفون بأنهم في "مرحلة الأطفال". وبرزت العصا الغليظة سافرة من خلال بعض الجهات الأمنية بملابس شرطة وقوات مدنية تتعقب الأطفال الصغار؛ في مشاهد مخجلة وفاضحة لهذا النظام.
وحينما وُوجهت هذه المشاهد باستنكار عام، سواء من الأهالي أو من الطلبة أو على مواقع التواصل الاجتماعي، لم يملك هؤلاء إلا ثقافة الإنكار، ما بين إنكار أن من قاموا بتعقب الطلبة والإمساك بهم ليسوا من جهاز الشرطة، أو أن الصور قديمة منذ العام 2015 وليست حديثة، أو أن الأمر صار عند البعض أنه لا بد أن "تتطوروا غصبا عنكم". فكل شيء في "السيستم" يكون قسريا، حتى التطوير، وحتى لو كان "السيستم وقع" أو فشل. والطامة الكبرى في عملية الإنكار أن يخرج الوزير ذاته، الذي تحدث من قبل عن "مشكلة السيستم"، ليتحدث بقدرة قادر عن "نجاح السيستم والتطوير"، وأنه "بلغ أهدافه".
هكذا هي النظم الاستبدادية تواجه فشلها بعقلية الإنكار التي ستؤدي دوما إلى استمرار "السيستم رغم فشله"؛ ولا تزال العصا الغليظة حاضرة، ولسان حاله يقول: "قول يا ابني انت وهو معانا السيستم نجح حتى لو فشل"، مفارقة كبرى لنظام استبدادي فاشي لم يعد يعرف إلا العصا!!