لا تترك المملكة العربية السعودية فرصة إلا استغلتها لدق طبول الحرب، وتكثيف الضغوط على واشنطن لبدء هجماتها فورا ضد
إيران. يلمس الجميع ذلك في تصريحات المسؤولين السعوديين، وفي تغطيات وتحليلات وسائل الإعلام السعودية التي هيأت متابعيها داخل المملكة وخارجها لانتظار هدير المدافع والقنابل في أي لحظة.
لا تقتصر الضغوط على المملكة لبدء العمليات العسكرية، بل يشاطرها في ذلك الكيان الصهيوني الذي يسخّر كل أدواته السياسية والإعلامية، واللوبيات المناصرة له لدفع واشنطن لبدء ضرباتها فورا. ولا يغيب عن هذه الجهود معارضون إيرانيون يقيمون في المنفى؛ يحرصون على إمداد الإدارة الأمريكية بمعلومات صحيحة أو غير صحيحة عن المنشآت النووية الإيرانية، في تكرار لما فعله معارضون عراقيون من قبل لنظام صدام حسين؛ واستندت عليه واشنطن في حربها ضده.
نجحت الضغوط السعودية والإسرائيلية، إضافة إلى حسابات استراتيجية خاصة بالإدارة الأمريكية، في تحريك حاملة الطائرات الأمريكية أبراهام لينكولن، وقاذفات "بي 52" وغيرها، ووضع الأسطول الخامس على أهبة الاستعداد، كما دعت بعض الدول
الخليجية الإدارة الأمريكية لنشر قوات جديدة على أرضها، إضافة للقواعد القائمة بالفعل.. كل هذه الاستعدادات أوصلت المنطقة إلى حافة الهاوية، دون الدخول في حرب لا يستطيع ترامب إعلانها منفردا دون موافقة الكونجرس؛ الذي سيُخضع هكذا قرار لحسابات المصالح والمفاسد التي تعود على واشنطن وليس غيرها.
سياسة حافة الهاوية التي اعتمدها ترامب حتى الآن ليست مأمونة الجانب، فقد يتسبب حادث بسيط جدا، سواء بطريق الخطأ أو بالقصد في اندلاع حرب تجهزت كل الأطراف لها بالفعل، حتى وإن لم تكن راغبة فيها حسبما يظهر من تصريحات قادتها. وقد يكون هذا العمل البسيط هو ضرب هدف عسكري أو مدني أمريكي أو إيراني بفعل طرف ثالث من مسعّري الحرب؛ الذين يعتقدون أن اندلاعها سيكون في مصلحتهم، وسيخلصهم من الكابوس الإيراني والمقصود هنا تحديدا المملكة السعودية، أو الكيان الصهيوني، أو ربما الإمارات.
يعتقد الإسرائيليون وآل سعود أن واشنطن قادرة على حسم المعركة سريعا، وتدمير المنشآت النووية الإيرانية، وكسر أنف الجيش الإيراني أو حتى الإطاحة بالنظام الحاكم. ومن الممكن فعلا أن تفعل واشنطن ذلك أو أجزاء منه بفضل تفوقها العسكري الكبير، لكن المؤكد أن إيران لن تقف مكتوفة الأيدي تجاه العدوان، وهي ليست بحاجة إلى أسلحة متطورة للوصول إلى أهداف قريبة في مرمى أسلحتها التقليدية، سواء في السعودية أو الإمارات والبحرين، أو حتى الكيان الصهيوني، بل إن هذه الدول ستكون في مرمى نيران إيران من أكثر من جهة (شرقا وجنوبا وشمالا)، عبر أذرع إيران العسكرية الخارجية في اليمن وسوريا والعراق ولبنان. وحتى إن تلقت إيران ضربات موجعة، فإن الدول الخليجية ستتلقى بدروها ضربات موجعة قد تأتي على اقتصادها كله وتعيدها إلى عصور البداوة.
وقد تابع العالم خلال الأيام الماضية الغارات الحوثية الناجحة على المنشآت النفطية السعودية في قلب الرياض، والتي لم تتمكن الدفاعات الجوية السعودية التي دفعت فيها المليارات من صدها، وكانت مجرد إنذار إيراني بسيط للسعودية، وقد تعرضت الإمارات بدروها لضربة موجعة في ميناء الفجيرة أعطبت أربع ناقلات نفطية أيضا. ورغم أن الفاعل لا يزال مجهولا حتى الآن، إلا أن الحادث يؤكد أن الإمارات فريسة سهلة لأي استهداف إيراني، خاصة أنها لا تبعد بضع كيلومترات عن القواعد الإيرانية في الخليج.
الكيان الصهيوني بدوره لن يسلم من ردود انتقامية مؤلمة، ولن تنفعه منظومة دفاعاته الجوية (القبة الحديدية) التي فشلت في اعتراض صواريخ حماس والجهاد الإسلامي الأقل تطورا، والتي نجحت في إصابة العديد من الإهداف الإسرائيلية مؤخرا.
الحرب ليست نزهة بحرية للأساطيل الأمريكية، ويدرك قادة الرأي في واشنطن ذلك جيدا، ولذلك فليس من المتوقع أن يوافق الكونجرس على إعلان الحرب التي لم يقدم لها ترامب أي مسوغات سياسية أو عسكرية؛ سوى إرضاء حلفاء إقلمييين (السعودية- الإمارات- إسرائيل). كما أن مراكز صنع القرار في واشنطن تدرك أن الحرب إذا اندلعت فإنها لن تقف عند حدود إيران، بل ستجد نفسها في مواجهة مع دول أخرى ستتحرك دفاعا عن مصالحها الاستراتيجية ونفوذها السياسي والاقتصادي، مثل الصين وروسيا وتركيا، التي لن تقف مكتوفة الأيدي وهي تدرك أنها ستكون الأهداف التالية لترامب بعد إيران.
تدرك واشنطن أيضا أنها بحاجة إلى تحالف دولي واسع ضد إيران، على غرار التحالف الدولي الذي ضم 33 دولة بينها دول عربية ضد العراق من قبل، وتدرك أنها ستجد صعوبات كبيرة في تشكيل هذا التحالف بسبب رفض أوروبا للحرب ومعها العديد من الدول الأخرى. وكانت واشنطن تجهز لتأسيس ناتو عربي في كانون الثاني/ يناير الماضي، لكنه لم يتم، وقد انسحب نظام السيسي منه قبل تدشينه رسميا، وربما كان أحد أهداف زيارة ولي عهد أبوظبي محمد بن زايد الأخيرة للقاهرة هو إعادتها لهذا الحلف مقابل بعض الإغراءات المالية (هناك أهداف أخرى للزيارة تتعلق بليبيا والسودان وقضية القرن). لكن هذا الحلف المحتمل لن يكون كافيا لخوض غمار حرب يمكن أن تكون حربا إقليمية كبرى، أو حتى حربا عالمية جديدة.
ولأن إدارة ترامب تدرك هذه الحقائق القاسية (سواء موقف القوى الإقليمية وصعوبة تأسيس تحالف دولي أو موقف الكونجرس)، فإنها بعد أن أوصلت الموقف في الخليج إلى حافة الهاوية بدات في إطلاق تصريحات ناعمة عن عدم رغبتها في الحرب، وتفضيلها للتسوية السياسية السلمية، بل إنها سعت سرا أو علنا لطلب وساطة بعض الأطراف لجذب إيران إلى مائدة التفاوض، وهو ما تقوم به حاليا سلطنة عمان وعواصم أخرى.
يبقى التأكيد أن رفض العدوان الأمريكي على إيران لا يعني قبولا بالسياسات الإيرانية في المنطقة، وخاصة في اليمن وسوريا، وهي السياسات التي أفقدت إيران حاضنة شعبية واسعة تمتد عبر العالم الإسلامي. وتحتاج إيران ودون إبطاء لتعديل تلك السياسات؛ المنطلقة من أبعاد طائفية مذهبية لطالما تغنت طهران بعكسها.