من جديد يعود التوتر إلى الساحة بين الولايات المتحدة الأمريكية وإيران، على خلفية انسحاب الأولى من
الاتفاق النووي الذي تم توقيعه بين
إيران من جهة، ودول "5+1" عام 2015م، الأمر الذي اعتبرته إيران سبباً كافياً لخروجها هي الأخرى من نفق هذا الاتفاق، أو تَحَلُّلِها بعض الشيء من الالتزامات التي فُرِضَت عليها بفعل هذا الاتفاق..
اليوم وبعد مرور عام على الانسحاب الأمريكي من هذه الاتفاقية، تصعّد إيران سياسياً وتصعّد أمريكا كذلك، ليُترَك المشهد مفتوحاً على مصراعيه أمام غرف التحليل حول مصير العلاقة القائمة بين إيران ودول الاتحاد الأوروبي؛ التي لم يرقْ لها تصرف الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إزاء الاتفاق النووي، بل عبّرت عن استيائها الكبير وأسفها لهذا القرار، الذي ينسف بنوداً كانت قد استهلكت الكثير من الوقت لدى أصحاب السياسة وصُنّاع القرارات في أمريكا وأوروبا وإيران..
وخلف التصعيد السياسي تلوح في الأفق نُذر تصعيد عسكري في مياه الخليج العربي، يتخللها فتورٌ أمريكي أحياناً، ورغبةٌ إيرانية بعدم الانزلاق نحو الخيار العسكري أحياناً أخرى. وبين التصعيد والفتور يمكن طرح وجهات النظر التالية:
أولاً: تريد الإدارة الأمريكية التي يتزعّمها دونالد ترامب أن تجبر إيران على ضم صواريخها الباليستية إلى بنود الاتفاق، تحت ذريعة أن ترامب لم يكن في سدة الحكم عندما تمّ توقيع الاتفاق، وبالتالي من حقه أن يتمرد على بنوده، ويعيد صياغته على النحو الذي يريد، وهذا ما ترفضه إيران حتى هذه اللحظة، وتعتبر أن صواريخها الباليستية هي صواريخ دفاعية تمتلكها إيران للدفاع عن نفسها، في ظل تكاثر خصومها في المنطقة وامتلاكهم سلاحاً مشابهاً لهذه الصواريخ، وأنه ليس من صلاحيات ترامب أن يُقحِم ملف هذه الصواريخ ضمن ورقة الاتفاق، بل عليه الاكتفاء بما ورد في الاتفاق الموقع عام 2015م.
ثانياً: يترك الرئيس الأمريكي دونالد ترامب رقماً هاتفياً خاصاً لدى سويسرا، في حال فكرت إيران في أن تتواصل معه، تزامناً مع تحركات عسكرية أمريكية في مياه الخليج؛ تحمل معاني التهديد لإيران. وكأن ترامب يريد أن يقول لإيران إنّ الإدارة الأمريكية تضع الكرة في ملعب إيران للوصول إلى اتفاق ما، وإنها جاهزة لكلا الخيارين؛ العسكري والتفاوضي، فأمام المسؤولين الإيرانيين فرصة الاختيار. لكنّ الجواب جاء من رئيس لجنة الأمن القومي الإيراني الذي قال إنّ إيران لن تتصل بالرئيس دونالد ترامب، ولا يوجد أي مسؤول يمكن أن يجري اتصالاً هاتفياً بالرئيس ترامب لاستجدائه كي يعود إلى نقطة العودة.
يُضاف إلى ذلك أنّ الرئيس حسن روحاني، وفي تعليقه على هذا الأمر، أكّد على أن إيران سوف تقلص جزءاً من تعهداتها بموجب الاتفاق؛ لأن ترامب أعاد فرض
العقوبات الاقتصادية عليها، بما في ذلك العقوبات المفروضة على صادراتها النفطية التي تعتبر عماد الاقتصاد الإيراني، بهدف خنق إيران، وإجبارها على الانصياع للقرارات الأمريكية.
وفي غرف التحليل، تمّ اعتبار هذه الخطوة نسفاً إيرانياً لتلك الطراوة التي يلجأ إليها ترامب بعد كل تصعيد في لهجته أثناء مخاطبة إيران..
ثالثاً: أوروبياً.. مطلوب من أوروبا اليوم، ولا سيما بريطانيا وفرنسا وألمانيا، وبحسب الشروط التي وضعها المرشد الإيراني علي خامنئي بعد الانسحاب الأمريكي من النووي الإيراني، أن تحافظ على علاقاتها التجارية مع البنوك الإيرانية، وشراء النفط الإيراني، في الوقت الذي تنظر عين ترامب المُحمرّة إلى هذه الدول، وتطالبها بضرورة النزول عند العقوبات المفروضة على إيران من قبل الولايات المتحدة. لكنّ هذه الدول ترى أنّ هذه الإجراءات سوف تزيد الأمر تعقيداً في حال تمّ اتخاذها، وسوف تضر بالعديد من الصفقات التجارية التي تم إبرامها، لا سيما أنّ الإدارة الأمريكية أعطت الشركات مهلة لا تتجاوز بضعة أشهر، لفك ارتباطها التجاري مع طهران، في الوقت الذي أعلنت فيه هيئة الإذاعة في إيران أنّ أمام دول الاتحاد الأوروبي التي وقّعت على بنود الاتفاق؛ مهلة مدتها ستون يوماً لاتخاذ موقف واضح يدفع بإيران إلى العدول عن قرارها باستئناف برنامجها النووي، واتخاذها إجراءات على مبدأ المعاملة بالمثل، وذلك رداً على التصعيد الأمريكي الأخير..
وبين فكّي التصعيد والتفاوض، يبقى الباب مفتوحاً أمام بعض الدول التي بدأت تقصد طهران وواشنطن وبعض العواصم الأوروبية، في محاولةٍ منها لاحتواء الموقف، والحفاظ على علاقاتها التجارية والاقتصادية مع جميع الأطراف المتنازعة حول هذا الاتفاق؛ لأنّ هذه الدول رأت أنّ اندلاع حرب محدودة أو مفتوحة بين إيران وأمريكا في المنطقة، سوف يلحق الضرر بكافة الدول التي يربطها شيء من الجوار مع إيران، أو شيء من الاقتصاد، بعد الإيمان بتلك المقولة التي لا يتنازع فيها عاقلان على هذا الكوكب، ألَا وهي: الاقتصاد أولاً..