ربما يكون الشيخ عائض القرني، ذائع الصيت في الأوساط الدينية والدعوية، لكني انتبهت إلى أنني لم أسمع له خطبة، أو موعظة، ولم أهتم بأن أقرأ له كتاباً أو مقالاً، فقد ارتبط اسمه عندي بواقعتين!
فأول مرة سمعت فيها باسمه، كنت أقلب بعض الكتب، في أرفف مكتبة صغيرة داخل مطعم على طريق مصر الإسكندرية الصحراوي، عندما لفت زميل لي انتباهي إلى كتاب لم ألق له بالا؛ عليه اسم الرجل، وقال لي إنه داعية سعودي، هو مؤلف هذا الكتاب: "لا تحزن"، وأن هذا الكتاب بيع منه في مصر وحدها أكثر من ربع مليون نسخة. ومع ذلك لم أهتم بقراءة ولو سطور من مقدمة الكتاب، أو حتى الاطلاع على الفهرس!
وكانت المرة الثانية بعد سنوات وهي مرتبطة بهذا الكتاب أيضاً، فقد تبين أنه قام بالسطو على جهد آخرين، فهذا كتاب مسروق، وهو ما أثبتته محكمة قضائية، وقضت بتغريم السارق بمبلغ كبير، أظنه 300 ألف ريال سعودي. ولم تكن هذه هي عملية السطو الأولى، ولم يكن هذا هو الحكم الأول، فنحن أمام سارق محترف في مجاله، وإن انتسب للدعوة الإسلامية. وما أظن أن الأحكام التي أثبتت عليه الجريمة قد أثرت في شعبيته، أو نالت من مكانته في قلوب مريديه، ومن هنا تكمن المشكلة التي عبر عنها كثيرون باصطناع الدهشة عند الإعلان الأخير للشيخ، بأنه ترك دين آبائه، والتحق بدين محمد بن سلمان!
لم تكن هذه هي عملية السطو الأولى، ولم يكن هذا هو الحكم الأول، فنحن أمام سارق محترف في مجاله، وإن انتسب للدعوة الإسلامية
وإن أكل مالك وجلد ظهرك
لم يتغير عائض القرني، كما لم يتغير الشيخ محمد حسان، وغيرهما من الدعاة الذين كان الناس يشدون الرحال إليهم، ويتخذونهم أئمة يحرصون على حضور دروسهم، لكن الناس هى التي تغيرت، وصارت ثورية وأزعجهم أن شيوخهم المحبوبين ليسوا ثوريين أو مقاومين للظلم. ومن هنا قرأنا عن هذه الصدمة، فهل كان الأنصار لا يعرفون أن شيوخهم يعتنقون فكر الانبطاح للحاكم، وإن أكل مالك، وجلد ظهرك؟.. إذن، لماذا تركتهم الدولة البوليسية يمارسون دعوتهم في حرية، ويملأون الفراغ الذي خلفه منع دعاة معارضين من ممارسة مهنتهم. فهل المشكلة في تغير الأنصار أم في
ثبات الشيوخ؟ فهل قدم الشيخ محمد حسان نفسه يوماً على أنه الشيخ عبد الحميد كشك مثلا، الذي تم منعه من الخطابة لأكثر من 15 عاماً، حتى وفاته، وتم إفساح المجال لدعاة ربما لم يكونوا في دائرة التكليف؛ عندما مُنع الشيخ كشك من الدعوة بقرار من السلطة، وهي عمله ومهنته، فلم يغادر الدنيا إلا وهؤلاء الدعاة نجوما تتخطفهم الشاشات، وتحتفي بهم المنابر، وينصت لهم المريدون!
إن الشيخ عائض القرني هو ابن المدرسة
السعودية، وهو إن تطور فكره، فالتحق بما سمي الصحوة السعودية، فإنه لم ينتقل من مدرسة تقدس الحاكم إلى أخرى تدعو لمقاومته والثورة عليه، فقد ظل في هذه النقطة كما هو لم يتغير ولم يتطور. فالسعودية اتسعت للمدرستين؛ الأولى صاحبها الشيخ محمد بن عبد الوهاب، والثانية هى مدرسة "
الإخوان المسلمون "والتي لم تكن في عداء مع المدرسة الأولى. كما أن المدرسة الأولى لم تعادِ الإخوان؛ الذين استقبلتهم السعودية في ذروة خلافها مع عبد الناصر، وفق قاعدة: "إن المصائب يجمعن المصابينا"!
عائض القرني هو ابن المدرسة السعودية، وهو إن تطور فكره، فالتحق بما سمي الصحوة السعودية، فإنه لم ينتقل من مدرسة تقدس الحاكم إلى أخرى تدعو لمقاومته والثورة عليه
الإسلام السعودي:
مدرسة الإخوان في الحقيقة هي امتداد لفكر الشيخ رشيد رضا، الذي هو تلميذ للشيخ محمد عبده بكل استنارته، لكن رشيد رضا تحول إلى السلفية، ومصر كانت تتحمل عملية امتزاج الأفكار في قلب واحد، وفي جماعة واحدة، ولهذا قال حسن البنا في تعريفه لجماعته إننا طريقة صوفية وجماعة سلفية...!
ولا يمنع هذا أن الإسلام السعودي، على تشدده، كان يعمل على الاستيعاب؛ لأن الانغلاق باعتبار مذهبهم يمثل "الدعوة الخالصة" لن يفيد، فمركز العالم السني في مصر، حيث الأزهر الشريف، ومعظم العلماء الكبار في العالم؛ هم أبناء المدرسة المصرية، وعدم انفتاح الإسلام السعودي عليه، سيحصره ويمنعه من التأثير والاحتواء!
والشيخ عائض القرني هو نتاج تأثير الإخوان في المملكة، فهو عندما اعتذر في البرنامج التلفزيوني، قال إنه يعتذر عن "الصحوة الإسلامية"، فلم يكن منتمياً للوهابية، والصحوة السعودية هي حركة فكرية إخوانية في الأصل، نشأت في بداية الثمانينات بدعم مجموعة من الدعاة، منهم سفر الحوالي، وسلمان العودة، وعائض القرني!
وهي حركة لم تدخل في جدل مع المدرسية
الوهابية، رغم أنها تأخذ من الإسلام الجانب الليبرالي فيه، ثم أنها لم تكن لديها اهتمامات سياسية، ولو في اتجاه دعوة أهل الحكم إلى تبني الإصلاح المذهبي أو السياسي، فقد ظل (مع هذا التحول) ما لقيصر لقيصر وما لله لله!
يخلط الصحوة بالأفكار السلفية التي تتبناها المؤسسة الدينية الرسمية، فهي التي ضيقت على المجتمع السعودي، وانتقل أثرها إلى خارج الحدود
دعك مما قاله القرني من أنه أخطأ في حق المجتمع بسبب الأفكار المتشددة التي خالفت الكتاب والسنة وخالفت الدين المعتدل، فلا يمكنه أن يذكر شيئاً من هذه الأفكار، التي قال إنها ضيقت على الناس والمجتمع. وفي الحقيقة هو هنا يخلط الصحوة بالأفكار السلفية التي تتبناها المؤسسة الدينية الرسمية، فهي التي ضيقت على المجتمع السعودي، وانتقل أثرها إلى خارج الحدود!
دين محمد بن سلمان
وعندما يقول الشيخ القرني إنه صار على دين محمد بن سلمان، فهو لم يتغير؛ لأنه يتحول من موقع الثبات. فأفكار السلفية والصحوية تدور في إطار الحاكم، فلا تدعو للخروج عليه، وهو ترك الوهابية وصار إخوانياً؛ لأنه لم يكن هناك مانع من قبل أولي الأمر في أن يكون كذلك، في وقت التصالح ما بين السلفية والإخوان داخل البيت السعودي، وبعض أفراد العائلة تبنوا هذا الخط، وهو ما أقلق أهل الحكم هناك، وكان أول من عبر عن انزعاجه من الوجود الإخواني في السعودية (ربما لهذا السبب) هو وزير الداخلية نايف بن عبد العزيز، وشعر بمؤامرة الفكر الإخواني على المذهب الديني السعودي المعتمد رسمياً، ورأى أن الوجود الإخواني في المملكة مثل اختراقا لهم. وامتنع الإخوان في مصر عن الرد عليه، فلم ينسوا الفضل بينهم. وأذكر أن سؤالاً وجه للمستشار مأمون الهضيبي حينذاك عن هذه التصريحات، في مقابلة صحفية، فقال كلاما طيبا في حق المملكة وأغلق باب الجدل!
الذي تغير هو الموقف السعودي، حيث استنفدت الفكرة الإسلامية في المملكة أغراضها، والسعودية في ظل حكم محمد بن سلمان، تريد أن تقدم نفسها للعالم الغربي، أنها في طريقها للالتحاق بقطار الحداثة في الشكل، دون أن يؤثر هذا على طبيعة الحكم
الذي تغير هو الموقف السعودي، حيث استنفدت الفكرة الإسلامية في المملكة أغراضها، والسعودية في ظل حكم محمد بن سلمان، تريد أن تقدم نفسها للعالم الغربي، أنها في طريقها للالتحاق بقطار الحداثة في الشكل، دون أن يؤثر هذا على طبيعة الحكم، وإن شئت الدقة، فقل إنه يريد من الحداثة المظهر وليس الجوهر، فيتم إنشاء وزارة للترفيه، ويسمح بالحفلات الغنائية، وبالحضور المختلط، ليستمر الحكم بطبعته القديمة التقليدية، والمستبدة، والتي لا تقبل بحكم الشعب!
لا عودة للدين السعودي
ولهذا، فقد فإن عائض القرني، كان دقيقا، فلم يعتذر ويقرر العودة إلى الدين السعودي، فهذا ليس مطلوبا الآن، فقد تاب وأناب والتحق بدين محمد بن سلمان، الذي قال إن بلاده تبنت المذهب الوهابي استجابة لمطالب بريطانية وأمريكية!
العداء السعودي للإخوان هو بسبب الربيع العربي، الذي استشعرت به عدد من الأنظمة، على رأسها النظامان السعودي والإماراتي، خطر الإخوان على العروش القائمة. وهنا اعتذر عائض القرني عن إخوانيته "وأخذها من قصيرها"، ودخل في دين محمد بن سلمان، أخذاً بالأحوط. فالإسلام السعودي مرفوض أيضاً، وكل توجه ينتمي له يعد مخاطرة، فقرر أن يدور مع ابن سلمان حيث دار، مع أن ولي العهد لم يقدم رؤية مكتملة لمذهبه، بيد أن الشيخ القرني قرر الالتحاق بالشخص، إلى حين تنزل الوحي!
الإسلام السعودي مرفوض أيضاً، وكل توجه ينتمي له يعد مخاطرة، فقرر أن يدور مع ابن سلمان حيث دار،
وهو في هذا كله لم يتغير؛ فهو مع الحاكم يتقرب من بلاطه بالنوافل، وهل كان قبل ذلك واحداً من دعاة الثورة عندما كان معتمداً لدى التيار الديني، ولم ينفضّوا من حوله عندما تأكد أنه لص كتب؟!
من حق الشيخ عائض القرني الآن أن يردد في مواجهة من يهاجمه ويعلن انشقاقه عنه، أغنية الراحلة ليلى مراد:
أنا زي ما أنا.. وإنت بتتغير!
يُعذر الشيخ عائض القرني بجبنه.. فهو لم يكن شجاعا من قبل!