يدعو الأكاديمي والاسلامي السوداني البارز إبراهيم محمد زين، في الجزء الثاني والأخير مع "عربي21"، الحركة الاسلامية، إلى مراجعة للمستويين (النظري والتطبيقي)، خصوصا على صعيد فهم الإسلام لشموله على كل مناحي الحياة، وكيفية تطبيقه في دولة ما بعد الاستعمار بالسودان، ويُحمل الإسلاميين الذين دعموا الرئيس المعزول عمر البشير، مسؤولية الإخفاق في التصدي له شخصيا، أو على مستوى بناء آليات سياسية لمنع الفساد بإدارة الدولة، معتبرا أن تطبيق مفهوم الإسلام السياسي "الصحيح" ليس حكرا على تنظيم الإسلاميين السياسيين، وأن على من تخطوا سن الخمسين التنحي لأجيال جديدة قادرة على فهم قيم "الحداثة"، وعلى التجديد الإسلامي المتفهم للشخصية السودانية والمجتمع والدولة القطرية، وقيم النظام العالمي السائد.
وتاليا الجزء الثاني من المقابلة:
س ـ بالنسبة للذين يتمسكون بالتصور القديم للإسلام السياسي الذي عرَفته، وبعد هذه النهايات التي وصل إليها نظام البشير، هل يستحق هذا الوضع إعادة النظر في المرجعيات أم في استراتيجيات التطبيق فقط؟
ـ حينما نستخدم مصطلح إسلام سياسي لا نقصد بالتأكيد اللغط الذي يشوش على هذا المصطلح، وما من حركة جادة إلا وعليها أن تدرس تاريخها وتراثها وكسبها، وحينما تأتي إلى نقاط مفصلية كما يحدث الآن في السودان، فإن عليها مراجعة المستويين (النظري والتطبيقي)، خصوصا على صعيد فهم الإسلام لشموله كل مناحي الحياة وكيفية تطبيقه في دولة ما بعد الاستعمار بالسودان، وفهم ديناميكيات الدولة القطرية، وفهم الإنسان السوداني، والمجتمع، فإذا أرادت (الحركة الإسلامية) أن تحكم الناس، لابد أن تقول إن الإسلام شامل لكل مناحي الحياة ولا يختلف معها في ذلك المسلم العادي، إلا على مستوى ما الليبرالي أو العلماني الذين انسلخوا من فكرة الإسلام كما نفهمه نحن، أي يجب فهم التشكلات التي حدثت في هذه الدولة القطرية، لأن جزءا من الذين حركوا المعارضة يرفعون لافتة التهميش، لابد من استيعاب هؤلاء..
صحيح أن الحركة الاسلامية كان واحدا من أنصع منجزاتها هي التحلل من عرى القبلية البغيضة مثلها مثل الحركة الديمقراطية والشيوعية، حاولوا أن يوسعوا انتماء أوسع أفقا وهو الانتماء للجماعة الوطنية، ولكن عندما جاءت الحركة الإسلامية إلى الحكم أحيت هذه القبلية في كل المستويات، وأحدثت ردة في تطور المجتمع السوداني بسبب سوء فهم الشخصية السودانية.
الحركة الإسلامية أحيت القبلية في كل المستويات، وأحدثت ردة في تطور المجتمع السوداني
أعتقد أنه يجب أن ندرس كل هذه الأفكار ونخرج قادة إسلاميين جدد، أمام الذين شاركوا بالنقد أو بالمشاركة السياسية في إطار الثلاثين عاما الماضية فعليهم التنحي بلا استثناء، كل من في سن الخمسين فما فوق.. عليهم أن يتركوا الساحة لوعي إسلامي جديد يتخلق سيكون الأقدر على المراجعة لتطبيق الفهم الإسلامي، ومراجعة فهم الدولة القطرية في السودان، إذ لا يمكن أن تنجح بإنشاء دولة إسلامية في إطار عداء استراتيجي مع جيرانها، وإذا لم يكن مشروعها يبشر بالخير لدول الجوار.. الذي حدث في الدولة المهدية (1885 ـ 1899) أنها صارت دولة تهدد دول الجوار بدلا من أن تقوم بتقوية مشروعها في الداخل وانتهت إلى التلاشي لأنها لا تتسع لكل هذا.. أي شخص عاقل بعد تجربة ثلاثين سنة (عهد البشير) يعلم ضرورة المراجعة، ولكن لو خرجنا من حمأة هذا الصراع يمكن أن نراجع المشروع مراجعة عقلانية للمسلمين في السودان وخارج السودان، رغم أن الحركة الإسلامية ليست مسؤولة عن الثلاثين عاما، فهي تجربة سودانية لها كسب مفيد وعليها أوزار كثيرة.
س ـ هل يتوقع أن تصعد تيارات العلمانية مع انحسار المشروع الإسلامي أم هي تخيلات ناتجة عن التصورات التي حكمت السودان لثلاثين عاما الماضية؟
ـ إذا أردنا استشراف المستقبل، فالإسلام لا خوف عليه، في نهاية الأمر.. قيام دولة علمانية في السودان صعب جدا عليها الاستمرار، لأن مبررات وجودها غير متوفرة.. من يقرأ تاريخ السودان بصورة صحيحة يرى أن الدولة الاستعمارية (العلمانية) قامت على جثث وأشلاء الدولة الإسلامية المهدية، وبقي الإسلام قويا رغم صولجان وقوة المستعمر ونظامه التعليمي الحديث الذي لم يغير في البنية الفكرية إلا على شريحة بسيطة جدا من السودانيين، وهذه أيضا خرج من رحمها ما نسميه بالحركة الإسلامية، فما بالك الآن؟
دولة علمانية في السودان مستبعدة.. لأن الاستعمار بكل قوته لم يستطع تغيير البنية الفكرية للمجتمع
ـ طبعا الإسلام بما فيه ديناميكية الاجتهاد، هو دين متجدد وليس دينا جامدا، والتجديد سمحت به النصوص نفسها في القرآن الكريم والسنة، لاستيعاب الحداثة، ويمكن أن يخرج الجانب الحديث بالإسلام، إذا كانت "الحداثة" لفظة أيدولوجية ونحن نريد أن تحاشى استخدامها..
الإسلام بما فيه ديناميكية الاجتهاد، يتسع لاستيعاب الحداثة إذا تحاشينا مدلولاتها الأيديولوجية
ـ لا يمكن أن تمارس أي نوع من الشورى الناجحة إذا لم تحترم الآخرين ولم تحترم قرار الشورى، أعطيك مثالا؛ في الدستور السوداني القائم على النظام الفيدرالي الذي يفترض أن يُنشئ حكومات في الولايات لا تصطدم مع المركز ونظاما يسمح لها بالتنوع، لكن (الأضحوكة) كانت في أن رئيس الجمهورية صار يملك الحق في تعيين حكام الولايات والتدخل في شؤونها.. في النظام الفيدرالي لا تستطيع أن تكون رئيسا وتحكم السودان بيتا بيتا، هذا ضد النظام الشوري، يبدو أنها كانت شورى على الورق، والأهم من كل ذلك هو أن يكون للناس الحق في الحصول على الحقائق والمعلومات، لا تتم الشورى إلا اذا كانت أجهزة الإعلام غير مملوكة للدولة، بمعنى أن لا تسيطر عليها أجهزة الحكومة، كل الأجهزة كانت تفتقد للمعلومات لذلك لم تقم بمهامها.
س ـ هل نتوقع خروج تيارات من عباءة الإسلام السياسي التقليدي، والتفكير في تنظيم فكري وسياسي جديد؟
ـ الإسلام السياسي التقليدي ارتكب خطأ كبيرا في 1989 وظل كابوسا يلاحق الحركة الإسلامية، لكن الحركة تسعد كثيرا لو جاء نظام يوفر الحريات، تنتعش الحركة الإسلامية والإسلام، وأخشى ما أخشى أن يعتقد بعض الناس بأنها لن تأتي بالإسلام، ويسوقوا للفساد، والتسلط على رقاب الناس بغير الحق، إذا نجحت الثورة في السودان في إشاعة أجواء الحريات، واحترام مختلف الآراء، وتوقير اللعبة الديمقراطية، فهذه أفضل وضع يمكن أن ينتعش فيه المشروع الإسلامي العام، الذي يجب أن يستوعب الآخرين، وأن الإسلام داخل السودان ليس حكرا فقط لمن ينتمون للحركة الإسلامية، أصلا واحدة من مشكلات الحركة تمثلت في إقصاء الخبرات والكفاءات، وصار هذا الإقصاء وبالا على الحركة الإسلامية وتسبب في الفساد المالي لأنهم ظنوا بأنهم يمثلون الإسلام وبالتالي هم فوق المحاسبة.
س ـ هل شكلت حماية الحركة الإسلامية بيئة آسنة للفساد المالي وفساد السلطة؟
ـ بالطبع هذا خطأ.. لأن الإسلام قيمه واضحة في هذا الخصوص، فالعدل يطبق على الجميع، يقول الله تعالى: "وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُوا)..الإنسان بطبعه يمكن أن ينحرف، لا توجد عصمة إلا للرسول عليه الصلاة والسلام، لكن من يسقط في الفساد، عليه أن ينال عقابا رادعا حتى يعرف الناس أن العدل قيمة تعلو على الجماعة.
لا يمكن أن تمارس أي نوع من الشورى الناجحة إذا لم يستطع الناس الحصول على المعلومات
وأعتقد أن الحركة الإسلامية تستفيد من هذه التجربة وسوف تفهم أن الاستيلاء على السلطة كانت هي نقطة بداية مشكلات تطبيق الإسلام في السودان، وأن بعضه لم يكن لهم قبل بهذا الانتصار العسكري، وأكبر من طاقة استيعابهم، وصاروا يرتكبوا خطأ بعد خطأ، والحركة الإسلامية نفسها أنشأت واجهة سياسية انتهت به إلى أنه حزب لا يستطيع أن يحاسب رأسه، وأعضاءه، أو منعهم من ارتكاب الأخطاء.
مثقف بارز يتنبأ بازدهار مفهوم "الإسلام السياسي" بالسودان
مفكر سوداني: ثمة فرصة لتغيير في مقاربات الإسلام والدولة
مفكر سوداني: الثورة لا تملك أن تنهي مشروع الإسلام السياسي!!