تشكّل تحوّلات السياسيات الدولية في الشرق الأوسط عاملا مهما وفاعلا في التحوّلات السياسية داخل المنطقة، وفي العلاقات والصراعات والتحالفات التي تتشكل فيها. ونظرا لما شهدته السنوات الخمس الأخيرة من تحوّلات استراتيجية في سياسات النظام الدولي، فإن إدراك وتحليل أبعاد هذه التحولات وانعكاساتها على
العالم العربي؛ يشكّل أساسا مهما في التفكير الاستراتيجي والمستقبلي في القضايا العربية، ومستقبل العالم العربي ودوره الإقليمي والدولي، ناهيك عن انعكاساته الحيوية على الصراع العربي- الإسرائيلي والعلاقات العربية- الإسرائيلية، إضافة إلى تحوّلات العلاقات بين الدول العربية ودول الإقليم الأخرى، وخصوصا كلّ من تركيا وإيران وإثيوبيا. ولذلك، فإنّ السعي إلى بلورة تصوّر عن التحول في السياسات الدولية (الولايات المتحدة وروسيا والاتحاد الأوروبي والصين)، وأبرز انعكاساتها على المنطقة يمثّل هدف هذا التحليل الرئيسي.
وفي هذا السياق، شكّلت سياسات الولايات المتحدة في التعامل مع ما عرف بتنظيم الدولة في العراق وسوريا؛ أساسا مهما في التحولات العسكرية والسياسية في أداء الولايات المتحدة في المنطقة، منذ عام 2014 على وجه التحديد، وفي التعامل مع الملف النووي الإيراني بالتعاون مع الاتحاد الأوروبي وروسيا، منذ عام 2015، فضلا عن تراجع أوباما، في ولايته الثانية، عن برامج الإصلاح الديمقراطي في المنطقة، ومعاودة دعم الأنظمة غير
الديمقراطية، وهو تراجع ظهر بشكل أكثر حدّة ووضوح خلال إدارة الرئيس ترامب؛ حيث لم يعد نشر الديمقراطية وحقوق الإنسان ضمن أولويات برامج أو سياسات الولايات المتحدة.
لكن التحوّلات الأكبر كانت في عهد الإدارة الأمريكية الجديدة منذ مطلع عام 2017، حيث تصدّر ملف مكافحة الإرهاب كلّ الملفات الأخرى في المنطقة من منظور هذه الإدارة، كما شهدت السياسات الأمريكية تحوّلا في التعامل مع إيران وملفّها النووي، ومع دول الخليج العربية ودورها في تحمّل تبعات السياسة الأمريكية الحمائية ضدّ إيران، وحشدها ضدّ إيران كمرحلة لاحقة في ما يُعرف بمحاولة بناء "الناتو العربي". كما ظهرت تحوّلات في السياسات الأمريكية في التعامل مع القضية الفلسطينية، وفي الملف السوري، وخصوصا ما يتعلق بأكراد سوريا والدور الكردي فيها، ودور تركيا في حلّ الأزمة السورية.
وشكّل تحوّل سياسات الإدارة الأمريكية في التعامل مع القضية الفلسطينية منعطفا مهمّا في السياسة الأمريكية تجاه المنطقة. وقد ارتكز التفكير والفعل الأمريكي على ثلاثة محاور، الأول: حشد دول الخليج وراء الرؤى الأمريكية، بأن التهديد الأساسي لها يتمثل في إيران وليس إسرائيل، فسعت إلى طلب دعم دول الخليج الاقتصادي والمالي، وإغرائها عبر انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي مع إيران, وتجميع قوة دول الخليج إلى جانب إسرائيل لدرء الخطر الإيراني. والثاني: الضغط المباشر على الفلسطينيين والأردنيين للقبول بما يطلق عليه "
صفقة القرن"، حتى دون الخوض في تفاصيلها أو الاستماع لوجهات نظرهم لتعديلها، واستخدام ضغط دول الخليج المالي لتحقيق ذلك. وبموازاة ذلك، تحويل مشكلة قطاع غزة من مشكلة احتلال وحصار إلى مشكلة إنسانية فقط. والثالث: التناسق مع توجهات اليمين الإسرائيلي المتطرّف باعتبار الجولان أرضا إسرائيلية، والقدس المحتلة عاصمة إسرائيل؛ حيث قد أعلنت إسرائيل ضمّهما من جانب واحد عامَي 1981 و1982 على التوالي. هذا بالموازاة مع إقناع الجانب الاسرائيلي بالتعاون في تحقيق بعض الحقوق الاقتصادية والمدنية، وبعض التعديلات في الأراضي في الضفة الغربية وقطاع غزة، في مقابل القبول العربي والفلسطيني بضمّ القدس والجولان والمستوطنات في الضفة الغربية وملحقاتها، من الطرق الالتفافية والحمايات العسكرية. وذلك مع أخذنا بالاعتبار بأن الإدارة الأمريكية الجديدة قد اتخذت مواقفها منفردة ومخالفة لكلّ القرارات الدولية ذات الصلة ومواقف الإدارات الأمريكية السابقة.
وقد لقيت هذه التوجهات الأمريكية رفضا صريحا فلسطينيا وأردنيّا، كما لقيت موقفا عربيا رسميّا رافضا، ولكن مع اتصالات غير علنية مع إسرائيل، بل وممارسات تطبيعية في العلاقات معها من قبل بعض الدول العربية، وتجاوبا مع مؤتمر وارسو لحشد الدول العربية وإسرائيل معا في مشروع مواجهة إيران وفق التوجهات الأمريكية- الإسرائيلية، ما اعتبر تجاوبا مع السياسات الأمريكية في المنطقة.
ولذلك، فإن هذه التوجهات الأمريكية الجديدة تعمل على خلخلة الموقف العربي، وإفراغه من محتواه إزاء القضية الفلسطينية بالممارسة العملية، وإقرار الأمر الواقع، حسب عددٍ من زعماء دول عربيةٍ متجاوبةٍ مع الصفقة. كما أن ذلك سيعمل على محاصرة الموقف الفلسطيني والموقف الأردني، حتى عربيّا. وبرغم أهمية هَذَين الموقفين، بل إنّهما الحاسمان عربيا، غير أن مواقف عددٍ من الدول العربية يتساوق مع السياسة الأمريكية الجديدة وغير آبهٍ بهما، بينما يقطف اليمين الإسرائيلي المتطرف ثمار ذلك، ويستمر ببرنامجه التهويدي وتشدّده السياسي والأمني في التعامل مع الفلسطينيين. فضلا عن ذلك، تمارس الولايات المتحدة إجراءات وسياسات ضاغطة اقتصاديا على الجانب الفلسطيني والأردني؛ لكسر موقفهما هذا.
وعلى صعيد روسيا الاتحادية، فقد تنامى دورها في المنطقة إثر تدخلها العسكري المباشر في الأزمة السورية في عام 2015، وازداد دورها في ظلّ تنامي قدرتها على التنسيق مع الولايات المتحدة وإسرائيل، وتقدّمت العلاقات الروسية- الإسرائيلية إلى درجة أصبح فيها العامل الإسرائيلي أساسيا في السياسة الروسية العسكرية والأمنية في سوريا والمنطقة، ووصل إلى درجة أنْ تقوم روسيا بالعمل على اكتشاف جثث جنود إسرائيليين قتلوا في حروب سابقة بين روسيا وإسرائيل. وفي المقابل، لم تقم روسيا بدور فاعل في الضغط السياسي على إسرائيل والولايات المتحدة في ما يخص القضية الفلسطينية، وإن كان سلوكها التصويتي في الأمم المتحدة يحافظ تقريبا على دعم حلّ القضية وفق الشرعية الدولية، ورفض إجراءات إسرائيل أو الولايات المتحدة أحادية الجانب إزاء وضع الأراضي المحتلة عام 1967.
كما تنامى الدور الروسي في المنطقة في ضوء احتواء مصالح وسياسات كلٍّ من إيران وتركيا من جهة أخرى، وشكّلت نجاحات السياسة الروسية في تغيير مسرح العمليات والمسار السياسي في دعم قوّة النظام السوريّ، واستعادة السيطرة في مقابل انحسار قوى المعارضة المسلحة، نقطة قوة استراتيجية لصالح روسيا.
من جهة أخرى، شهدت سياسة الانفتاح الروسي على دول المنطقة، بما فيها دول الخليج العربي والأردن ومصر، تحولا مهما في مناطق النفوذ الأمريكي. وبرغم التوافقات بين كلّ من روسيا والولايات المتحدة على المسألة السورية، غير أنّ الولايات المتحدة بدأت تتحسّس من الإشكاليات الناجمة عن التوسّع في بيع الأسلحة الروسية لعددٍ من دول المنطقة؛ التي كانت تعتمد في التسليح على الولايات المتحدة أساسا. ومثّل شراء تركيا لصواريخ دفاعية روسية متطورة أزمة بين كل من تركيا والولايات المتحدة، رغم أن موقف أمين حلف الناتو لم يكن معارضا لهذه الصفقة، وعبّر عن حق تركيا في تنويع مصادر سلاحها؛ ما لم تشكل خطرا أمنيا على الحلف. كما فتحت روسيا ملف الغاز في البحر المتوسط، واستعادت علاقاتها الاستراتيجة مع تركيا لنقل الغاز، وفتح ذلك الفرصة لتحولات في علاقات روسيا في المنطقة، وبالتالي ساعدها لتستعيد دورها كلاعب أساسي لا يشتبك مع الولايات المتحدة، ولكنه لا يتفق معها بالكامل، الأمر الذي أسس لتحولات سياسية إضافية.
أمّا الاتحاد الأوربي الذي يشكّل قوة اقتصادية وسياسية على مستوى العالم، فإنه لا يعدّ (في العموم) وزنا مضادا للولايات المتحدة، وإنما يتساوق في كثير من سياساته معها، وخصوصا تجاه قضايا الشرق الأوسط. ومع ذلك، فإن الاتحاد يعترض أو يتحفّظ على بعض السياسات الأمريكية في المنطقة، التي يرى فيها منطقة جوار، والتي يمكن لعدم الاستقرار فيها أن يؤثّر بشكل كبير على أمنه واستقراره، سواء من خلال موجات الهجرة أو غيرها..
وما تزال الصين تشكّل قوة اقتصادية على مستوى العالم تنافس الولايات الولايات المتحدة. ورغم أنّ سلوكها التصويتي في الأمم المتحدة يتساوق مع روسيا مقابل الولايات المتحدة وبقية الدول الغربية، فإن دورها السياسي على مستوى العالم وفي منطقة الشرق الأوسط يبقى محدودا، ويتّسم بسياسة الحياد الإيجابي.
وقد أدّى التحول في السياسات الدولية إلى انعكاسات سياسية وأمنية ذات أثر كبير على المنطقة. ومن أبرز التداعيات السياسية: استلاب القرار العربي بسبب التدخلات الدولية في أكثر من دولة عربية، وخصوصا في كل من سوريا والعراق واليمن وليبيا، وكذلك تنامي دور الدول غير العربية في الإقليم على حساب الدول العربية، ويشار هنا إلى كلّ من إسرائيل وتركيا وإيران وإثيوبيا. هذا إضافة إلى تحميل الدول العربية الغنية مسؤولية إعادة إعمار سوريا وتوطين اللاجئين وإعادة إعمار اليمن، وتمويل حملات مكافحة الإرهاب.
وتشكلّ القضية الفلسطينية مفصلا مهمّا في تحوّل هذه السياسات، حيث تسير الإدارة الأمريكية في عملية تفكيك مباشرة للقضية الفلسطينية، وتتجاوز القرارات الدولية ذات الصلة، وذلك بانحياز كامل لمربع اليمين الإسرائيلي المتطرف الذي يحكم إسرائيل للمرة الرابعة على التوالي، والذي لا يحمل سوى رؤية التصفية للقضية، ونشر الإخلال بالأمن وعدم الاستقرار في المنطقة، والوقيعة بين الدول العربية وابتزازها.
وأما على صعيد الأزمة السورية، فقد تمكّنت السياسات الدولية وتطوراتها من إضعاف العامل السوري على صعيدي النظام والمعارضة، بل واحتواء العامل الإقليمي المتمثّل في تركيا وإيران، وإلى حدٍّ ما الأردن، ما جعل الأزمة وحلّها ورقة بيد النظام الدولي، وتحديدا بيد كلّ من روسيا والولايات المتحدة، وهو ما يثير التساؤل عن مدى الاستقلال الذي تنشده أطراف الصراع في الأزمة السورية في ظلّ هذا التحول، ومخاطره على مستقبل تزايد النفوذ الدولي والتواجد العسكري في المنطقة بالتنسيق مع إسرائيل، لتُضاف الجيوسياسة السورية إلى جيوسياسة الخليج العربي في ميزان القوة الدولي والصراع الدولي مستقبلا.
أما في سياق التداعيات الأمنية للتحولات في السياسات الدولية، فقد أصبح ملف الإرهاب الملف الرئيسي في المنطقة، إلى درجة أنه أصبح الزاوية التي ينظر منها المجتمع الدولي إلى أزمات المنطقة، وخصوصا الأزمة السورية، وهو ما أثر على الأبعاد الأخرى في هذه الأزمات، والتي تشكل مدخلا مهما لحلّها، وهي الأبعاد السياسية والاجتماعية والحقوقية والاقتصادية. كما أدّت هذه التحولات الدولية إلى استمرار
الصراعات داخل دول عربية، وتمثل ليبيا حالة واضحة في هذا السياق.
ونظرا لتطورات دور وتأثير العامل الدولي والإقليمي غير العربي الملحوظ في ترتيبات الأمن والنفوذ في المنطقة، فإنّ التحوّلات في السياسات الدولية لا تزال تعمل لغير صالح المشروع العربي والنهضة العربية والاستقلال العربي. وتُشكّل التحالفات العربية المتباينة والمتصارعة أحيانا؛ رافعة لمثل هذا الضعف في الدور. كما تمثل الصراعات الداخلية، وتراجع الديمقراطية، والتهميش المستمر للمعارضات السياسية في بعض الدول العربية، بل والملاحقات الأمنية في بعضها الآخر، عامل إضعاف للنفوذ والدور والوزن العربي الإقليمي والدولي، بما يؤثّر سلبيّا على مدى الاعتبار الذي يضعه النظام الدولي لمصالح هذه الدولة، أو استقرارها أو ازدهارها. وهو الأمر الذي أتاح فرصا أكبر لعوامل إقليمية أخطرها مشاركة إسرائيل في تشكيل الأمن الإقليمي، وأحيانا بإرادات عربية، ناهيك عن تنامي الدور الإقليمي لكل من تركيا وإيران وإثيوبيا على حساب الدور العربي أيضا، ما يجعل منظومة الأمن القومي العربي الجماعية هشّة جدّا. كما يؤثر على بنية الأمن القُطْري لكلّ دولة على حدة، في ظلّ انقساماتٍ طالت حتّى المجموعات الإقليمية العربية مثل مجلس التعاون الخليجي، والاتحاد المغاربي.
ومع ذلك، فلا تزال ثمّة فرصة أمام العالم العربي تقوم على ثلاثة محاور؛ لاستعادة جزء من زمام المبادرة في إدارة الشان العربي وتحقيق مصالحه العليا والمحافظة على أمنه القومي، أولها: التصالح الشامل بين الدول العربية، ووقف الصراعات البينية والسياسات المتباينة إزاء مختلف الأزمات، ووقف سياسة الاستقواء على بعضهم والصراع على الدور الذي لا يخدم إلاّ الفوضى والاضطراب في البلاد العربية، كما نشهد اليوم. وثانيها: القيام بالمصالحات الداخلية على قاعدة الشراكة وبناء الجماعة الوطنية والشراكة السياسية في إدارة البلاد، واتخاذ القرارات المصيرية والتقوّي بالشعب أمام الضغوط الخارجية، والتحوّل إلى مسارات ديمقراطية متنوعة تناسب كلّ قطر وثقافته وتاريخه، وطبيعة نظام حكمه دون تأخير. وثالثها: استعادة وحدة الموقف العربي تجاه القضية الفلسطينية، بوصفها القضية الكبرى والمركزية للأمة، ووقف أشكال التطبيع مع الاحتلال الإسرائيلي، واستجماع القوة لمواجهة السياسات الأمريكية المنفلتة في تصفية القضية في ما يعرف بصفقة القرن، وأساسها تقوية الموقفَين الفلسطيني والأردني على مختلف المستويات، والضغط على المجتمع الدولي، بما فيه الولايات المتحدة للتراجع عن هذه المسارات غير البنّاءة، وبل والمدمرة للاستقرار في المنطقة.