انجرفت كثير من نخب الثقافة والسياسة العربية نحو شرنقة شعارات متهالكة، بعضها كانت وما زالت محسوبة على تنظيمات وفصائل حزبية يسارية، ولم تترك مناسبة احتفالية لم تمجد فيها دور
الطبقة العاملة والعمل، والتعويل على دورها التاريخي والحتمي في عملية التغيير والبناء المستقبلي، كونها الأداة الرئيسية للثورة المفترضة أو المتخيلة، حسب قوانين "الحتمية التاريخية" والديالكتيك الذي فرت منه نُخبه؛ نحو الضفة الأخرى من الشعارات المنضوية تحت بساطير العسكر والطغاة.
تغيرت النظرة للعامل، فأصبح العامل الجيد هو البلطجي والشبيح والمعفش، أو القاتل المأجور ضمن طوابير البحث عن طرق لاسترجاع شعارات، ومن نافذة المساهمة بقتل من ثار لها ومن أجلها، من وجهة نظر نخب تمقت وتزدري العمال وتتنكر لمقتلهم ولمعاناتهم. أما الطبقة العاملة الأخرى، فهي المغرر بها، والمدفوعة من "المؤامرة الكونية" للخروج عن طاعة الطاغية، والتي ارتضت أن تكون في رتل الأفغان أو الإرهابيين أو الدواعش.. هذه تصنيفات وأحكام نخب عربية ومثقفة تسلحت في فترة زمنية بأيديولوجيا تدعي امتلاكها المقدرة على تحليل واقع المجتمعات وتُنظر لمستقبلها، لكن عند الوصول لحالة انتفاض الشارع تلعثمت
الأيديولوجيا، وبلعت النخب الألسنة، ولم تخرج إلا لشتم العمال "الأوغاد".
الحالة المتنامية من الجدل في البنية والبيئة الثقافية، حول موضوع الثورات التي تصدى لها العمال ودفعوا مقابلها أثمانا باهظة، ما هي إلا دليل إفلاس فكري وثقافي، وتعبير عن حالة من الجوف والخواء الثقافي والسياسي والفكري، انعكاساً للمعنى الحقيقي للقطع الذي أحدثته نخب وقوى وحركات تحرر وطني مع الواقع؛ الذي من المفترض والبديهي أن يكون الأداة المحركة والموضوعية للتحليل من النواحي الطبقية، ومن المفترض أيضا أن يكون "بوصلة العقل".
هذه الحالة التي نشهد انحدارها منذ ثمانية أعوام، والمتعلقة بالعمق المفترض لحركة تحرر وطني، وهو الشارع العربي، بطبقته العاملة ونقاباته المختلفة وقواه الحية بعناصرها المختلفة، وما تشهده الحالة من انقسام، وتراجع، وركود، وسقوط وانكشاف لدور المثقف والنخب.. كل هذا يستدعي من العقل إعادة تعريف وظيفة المثقف والسياسي في الحالة العربية.
من متابعاتنا لبعض الكتابات والمواقف المعلنة في وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، ربما تكون حالة صادمة ومفجعة تلك المواقف الصادرة من رموز "تعتبر نفسها" أيقونات في مجال إبداعها، بحيث تم فصل الشعارات الوظيفية، والمفردات الثقافية التي أخضعنا لها على مدار عقود.
وعند أعتاب التجربة السورية على سبيل المثال، يجري اجترار البعض لفزاعة المؤامرة، وشعار الصهيونية والرجعية العربية، والضخ بـ"إسلاموفوبيا" النصرة والقاعدة وداعش، وأخونة المجتمع.. وكل هذا يمس الطبقة العاملة التي يجري الطعن بها وبتحركاتها، كأنها شعارات لم تستخدم طيلة عقود، أو كأننا لأول مرة نكتشف تحركا حقيقيا لهدم الطغيان، والسماح للعربي العامل أن يتحرك خارج بوتقة شعارات وأدبيات أصابها الشلل من كثرة الاجترار والرعب، لمواجهة الواقع.
لذلك تجد هذا العداء المستشري من نخب روائية وشعرية وفنية وثقافية وسياسية، في كتابات بات يطلق عليها "لوبي قومجي"، في أحسن الأحوال وظيفته المحددة الدفاع عن الطغاة ومهاجمة الثورات؛ لأنه في الفترة التي سبقت الربيع العربي كانت تعتاش هذه النخب على شعارات تغلف "شرنقتها"، وأمام التحدي المصيري الذي تواجهه في انكشافها وعريها بات لزاما عليها أن تلوذ بعقلها وصمتها عن مذبحة الإنسان العربي، بروليتاري أو برجوازي أو مثقف أو عامل.. إنسان لا يختلف في عدائه للظلم والطغيان عن بقية شرائح المجتمع، إلا في توصيف الطاغية وحلفائه الجدد من النخب، لتبدو حالة الإغراء والتنصل من دور الطبقة العاملة المتناقض في حبر الرواية والشعر والثقافة، كقشرة نخبوية جففتها ثورة الشارع العربي، وقدمتها كإنتاج ثقافي وأيديولوجي وسياسي واقتصادي أجوف؛ بعيد بتلك المسافة بين الأبراج العاجية للمثقف، والإنسان المسفوح دمه في زقاق عربي لا ينتهي من الفاجعة المركبة.