استبشرنا خيراً بالحراك الثوري في السودان، والذي أسقط رأس السلطة "عمر حسن البشير"، وهو إنجاز كبير يُحسب للثوار السودانيين المرابطين الذين أبوا أن يتركوا الميادين إلا بعد أن تتحقق مطالبهم. فلقد تعلموا الدرس من الثورة المصرية واستوعبوه تماماً، ورفعوا شعار "إما النصر أو مصر"..
لقد أصبحنا عبرة لدى الشعوب، ولا عيب ولا ضرر في ذلك، بل فيه نفع وفائدة. فبعيداً عن النعرات القومية والنزاعات الإثنية، والمواقف الشوفينية التي يتخذها بعض السودانيين وتبرؤهم من ثورات الربيع العربي الأولى الفاشلة، ومحاولة سلخ ثورتهم عن محيطها العربي بدافع الخصوصية التي تتمتع بها كل دولة، فإن الثورات تُعلم بعضها البعض، فضلاً على أننا أمة واحدة، تجمعنا ثقافة واحدة ودين واحد وتاريخ مشترك، ولكن للأسف فرقنا الاستعمار إلى دول متناحرة، وشعوب تعاني من نفس الأمراض المحيطة بالأمة، وتعتريها نفس الأعراض وتحس بنفس الآلام. لذلك، فإن علاجنا واحد، ولا مجال للاستعلاء والتنصل من بعضنا البعض وخلع جذورنا الضاربة في أعماق الأرض العربية..
لا بد لنا كشعوب عربية أن نواجه الحقيقة ولا نهرب منها.. نحن ما زلنا تحت سيطرة الاستعمار الأجنبي، ولا زالت دولنا محتلة وتدار من قِبله من خلال وكلاء له من بني جلدتنا أشد قسوة وظلماً منه، لتحافظ على وظيفتها. نعم كل الدول العربية بلا استثناء ترزح تحت الاحتلال، وما يُقال عن عصر ما بعد الاستقلال ما هو إلا أكبر أكذوبة في التاريخ، وما هذه الثورات العربية إلا فصول متصلة في تاريخ طويل من نضال وكفاح الشعوب العربية ضد المستعمر الأجنبي لنيل استقلالها، الذي تستطيع من خلاله أن تحكم نفسها بنفسها، ولن يحدث ذلك إلا إذا نالت حريتها الكاملة وأبعدت هؤلاء الوكلاء وإخوانهم، بل وفصيلتهم كلها، عن حكم البلاد نهائياً، وليس باستبدال رأس طاغية برأس طاغية آخر..
الذي حدث في السودان أنه قفزت المؤسسة العسكرية سريعاً على الثورة، في محاولة لإجهاضها، بعدما تأكد لها استحالة الوقوف أمام الشعب الذي ثار من أجل حريته واستقلاله، فكان لا بد من التضحية بـ"البشير" لتظل قابضة على حكم البلاد
والذي حدث في السودان أنه قفزت المؤسسة العسكرية سريعاً على الثورة، في محاولة لإجهاضها، بعدما تأكد لها استحالة الوقوف أمام الشعب الذي ثار من أجل حريته واستقلاله، فكان لا بد من التضحية بـ"البشير" لتظل قابضة على حكم البلاد، ممثلة في "عوض بن عوف" تارة، ثم في "عبد الفتاح البرهان" تارة أخرى. ويبدو أنها قد تعلمت الدرس جيداً من الثورة المصرية، فأخذت منه الخلاصة، واختصرت الطريق وأسرعت الخطى واختزلت الزمن، لتدمج ثورتي يناير "البيضاء النقية" ويونيو "الملوثة بالدماء" في مشهد واحد، وهما طريقان لا يلتقيان أبداً، فبينهما برزخ عميق وطويل يحول بينهما، فتحول ربيع السودان إلى خريف بسرعة البرق، وقبل أن تكتمل فرحتنا به!!
لا يُعد هذا تشاؤماً مني، بل هي قراءة لسير الأحداث وتطور الثورة السودانية، ولما نشاهده من التدخلات الخارجية التي تسعى بقوة للاستثمار في الثورة، في ظل أوضاع داخلية هشة شديدة الاضطرب. فما معنى أن يزور السودان، وفي هذا التوقيت الحساس والمصيري،
وفد من دولة الإمارات، معقل "الثورات المضادة"، والتي تحاك من على أرضها كل المؤامرات ضد ثورات الربيع العربي، بمساعدة الصهاينة والأمريكان؟ والذي زاد من الهواجس، أن هذا الوفد يضم من بين أعضائه "محمد دحلان"، المستشار الأمني لولي عهد أبو ظبي ورجل الموساد الأول في المنطقة، و"طه عثمان"، مدير مكتب "عمر البشير" سابقاً والذي افتضح أمر محاولته تنفيذ انقلاب ضد "البشير" بتدبير من الإمارات والسعودية في عام 2017، عقب الزيارة التاريخية للرئيس "رجب طيب أردوغان" للسودان، وتوقيع عدد من الاتفاقيات الاقتصادية والعسكرية بين البلدين، بينها استثمار جزيرة "سواكن" الهامة على البحر الأحمر، مما رجح احتمال إنشاء تركيا قاعدة عسكرية في البحر الأحمر، ما زاد من مخاوف السعودية والإمارات، فتآمرتا على "البشير"، وأوعزتا "لعثمان" بعمل انقلاب ضده، ومولتاه بالمال، ولكنه فشل في التنفيذ واكتشفت خيانته. وقبل أن تُسلم رقبته للبشير، كان قد فر إلى الرياض، ومنحه ولي العهد السعودي الجنسية السعودية..
كيف لا أقلق على الثورة السودانية، وأنا أرى على غير عادة السعودية والإمارات من ثورات الربيع العربي، الكارهة لها والخائفة منها والمتآمرة عليها، عكس ذلك الترحيب بالانقلاب وتولي "عبد الفتاح البرهان"، قائد القوات السودانية في اليمن المقرب من دولة الإمارات العربية؟
كيف لا أقلق على الثورة السودانية، وأنا أرى على غير عادة السعودية والإمارات من ثورات الربيع العربي، الكارهة لها والخائفة منها والمتآمرة عليها، عكس ذلك
الترحيب بالانقلاب وتولي "عبد الفتاح البرهان"، قائد القوات السودانية في اليمن المقرب من دولة الإمارات العربية، ومنحه ثلاثة مليارات دولار. إذن فهو رجل محور الشر في السودان. في الحقيقة، أنا لا أفهم سر فرحة السودانيين باستبدال عوف بالبرهان، فهو صراع داخل المجلس العسكرى نفسه؛ صراع عسكر بعضهم ببعض ولا دخل للشعب فيه، وإن أوهموه بأنه هو الذي أسقط "عوف". فلا مجال للمفاضلة بين زيد وعبيد، فكلاهما من معين واحد، ومن مؤسسة واحدة لا تريد أن يخرج الحكم من بين قبضتها، والاثنان شركاء في دماء السودانيين!
وكيف لا أقلق وأنا أرى تجمع المدنيين من القوى السياسية القديمة العفنة، الذين أفسدوا الحياة السياسية في السودان، والذين كانوا دائماً يطمحون إلى السلطة بالاستعانة بالعسكر، لذلك دعموا كل الانقلابات العسكرية السابقة، منذ انقلاب عبود إلى انقلاب النميري.. هذه القوى الانتهازية تسيطر على "تجمع المهنيين" الذين كانوا أيقونة الثورة ووقودها منذ كانون الأول/ ديسمبر، وأغلبهم من الشباب غير المسيس، وليس لديهم أي خبرة سياسية، لذلك استطاع هؤلاء الشيوخ الفاسدين أن يخترقوهم ويركبوا الثورة. وليس بالغريب عليهم أن يُطالبوا بمد فترة "الحكم العسكرى الانتقالي" إلى أربعة أعوام بدلاً من العامين اللذين حددهما المجلس العسكري في أول بيان له، بحجة تهيئة المناخ لنقل السلطة!! وهي حجة البليد دائماً، أعني اليسار العربي المأزوم الذي لم يستطع أن يصل إلى رجل الشارع ويبني قاعدة شعبية له، على الرغم من أن الفكر اليساري يخاطب ويداعب مشاعر رجل الشارع أولاً وأخيراً، وكان من السهل بل من اليسير عليهم جذبه إليهم وكسبه لصفهم، ولكن تلك النخب المتعجرفة من اليسار العربي تحفظ نظريات ماركس ولينين "صم" وتأبى أن تنزل من برجها العاجي وتختلط بالناس، ودائماً وأبداً تجد حمايتها في ظل حكم العسكر وتطمع في أخذ المناصب من خلالهم، وليس من خلال الشعب الذي يتحدثون باسمه!
لقد فرحت القوى اليسارية بسقوط "البشير" ليس لكونه طاغية، كفرحتنا جميعاً، بل كانت فرحتهم (أو قل شماتتهم) بسقوط الإسلام السياسي في السودان، وكأن البشير كان يحكم بالشريعة الإسلامية! بل إن البشير يُحسب خطأ على التيار الإسلامي، فهو الذي سجن الشيخ "حسن الترابي" الذي أتى به رئيساً للسودان، وشهد عهده اعتقال الآلاف من تلاميذه، أبناء التيار الإسلامي.. البشير دينه مصلحته وأينما وجدت السلطة، وكيفما تكون مصلحته يكون دينه ويرتدي له الثوب الذي يناسبه. وهذه قصة طويلة لا يتسع المقال لسردها، فهى تحتاج لمقال آخر. ففي الحقيقة، "البشير" كان يسارياً بعثياً، أتوا به "لحسن الترابي" بعد الانقلاب ولم يكن يعرفه من قبل، كما روى بنفسه في برنامج "مراجعات" على شاشة الحوار مع المفكر الأكاديمي الدكتور "عزام التميمي"..
فرحت القوى اليسارية بسقوط "البشير" ليس لكونه طاغية، كفرحتنا جميعاً، بل كانت فرحتهم (أو قل شماتتهم) بسقوط الإسلام السياسي في السودان، وكأن البشير كان يحكم بالشريعة الإسلامية
وكيف لا أقلق على مستقبل السودان؛ وأنا أرى أن هناك من القوى السياسية مَن يُطالب المجلس العسكري باتخاذ قرارات تصفوية حادة لخصومهم السياسيين من التيار الإسلامي، واجتثاث حزب "المؤتمر الوطني" من البلاد، على غرار ما حدث لحزب "البعث" في العراق و"الإخوان المسلمين" في مصر؟ وقد بدأ بالفعل منذ اليوم الأول للانقلاب اعتقال أعضاء بارزين في حزب "المؤتمر الوطني"، مما يعني منح المجلس العسكرى الانتقالي سلطات سيادية وتشريعية وتنفيذية في آن واحد، أي سلطات مطلقة. وهذا يُنبئ باستمرار نظام البشير الديكتاتوري، وإن تغيرت الوجوه، ولكن يظل أنهم جميعاً كانوا في قلب نظام البشير نفسه ورجاله ورموز عصره!
إن المجلس العسكري الانتقالي يلعب على عامل الوقت لترتيب الأوراق من جديد، وتجهيز نفسه للمرحلة القادمة، مستغلاً في ذلك التناقضات بين قوى الثورة المتباينة، واللعب على هذه الخلافات لتشتيت الجهود، ولإضعاف الثوار الذين يُعدون خصوماً له، وإن أبدى غير ذلك بتلك الخطابات الدبلوماسية الناعمة من قِبل "البرهان"، تماما كما حدث في الثورة المصرية من اجتماعات مماثلة بين المجلس العسكري والقوى الثورية، مما أدى لتفتيت هذه الكتلة الصلبة، وتشكيل عشرات الائتلافات الثورية التي ضمت أناسا لم يشتركوا أصلاً في الثورة، ولم يكونوا أبداً ضد مبارك. وبلغ عددها أكثر من 200 ائتلاف تتنازع فيما بينها، ويناهض بعضها البعض، ونسوا قضيتهم الأساسية التي دفع مئات الشباب دماءهم فداءً لها..
كانت أهم مطالب الثوار في السودان، هو نقل السلطة إلى إدارة مدنية، وأن يتحول المجلس العسكرى إلى مجلس الدفاع والأمن ويتبع لرئاسة الجمهورية. ومن أجل هذا
لا يزال الإعتصام مستمراً، وقد وعد البرهان ألا يفضه بالقوة، وإن كان قد دعا لفضه طواعية. فمن وجهة نظره أن أسباب الاعتصام قد زالت بزوال "البشير"، وهي أكبر خدعة يمكن أن يقع فيها الثوار، إذا صدّقوا
كلام البرهان المعسول وتركوا الميدان، فسقوط "البشير" لا يعني إنتهاء ثورتهم، بل هي بداية الثورة، ولا بد أن يسقط النظام بأكمله وتتحقق مطالبهم، وأن تُشكل حكومة مدنية. فإلى الآن لم يُشكل المجلس العسكرى حكومة، ليظل ممسكاً بكل الخيوط، ويدعي أن هناك قوى تعرقل سياساته، دون أن يُسميها، مما أثار تساؤلاً لدى الحراك عن مَن يقصد؟!
سقوط "البشير" لا يعني إنتهاء ثورتهم، بل هي بداية الثورة، ولا بد أن يسقط النظام بأكمله وتتحقق مطالبهم، وأن تُشكل حكومة مدنية
ولا بد أن يُوضع دستور جديد يسع السودانيين جميعاً ولا يستثني أحداً، فالأخطار الخارجية تحيط به من كل اتجاه، والأخطار الداخلية أشد وأصعب، في ظل
تعقيدات المشهد السوداني ومؤامرات التقسيم جاهزة في انتظار اللحظة الفارقة. وليست دارفور ببعيدة عن كل هذا، فهي على سطح صفيح ساخن، ربما ينفجر في أي لحظة من لحظات هذا الصراع العبثي. والثورة المضادة في عنفوانها وفي قلب المشهد، وتستغل حالة التخبط وعدم النضج للقوى الثورية الموجودة على الساحة وتنتهز الفرصة لتنقض على الثورة بلباس ديمقراطي يسر الناظرين، ويخفي في داخله عفن النظام البائد..
وتذكروا جيداً اسم
محمد حمدان دقلو الملقب "حميدتي"، قائد قوات الدعم السريع، أحد وأهم أذرع "البشير"، والذي اتكأ عليه في حكمه الفاشي، ورفعه إلى رتبة "فريق" وهو الذي لم يدخل أي كلية عسكرية، بل لم يكمل تعليمه المتوسط وخرج في سن الخامسة عشرة، وكان أول المتخلين عنه بعد أن تأكد له قرب سقوطه، والآن يرتدى ثوب الثورية وينخرط مع الثوار ويُطالب بمطالبهم!!
أيها السودنيون انتبهوا، فلحظات النشوة هي الأخطر؛ لأنها الأنسب لتسلل لصوص الثورات ولإنضاج التسويات. ولا يغرنكم ما يقولونه من كلام معسول وما يسطرونه في بيانات مخدرة، من أمثال: هيا بنا نستكمل أهداف الثورة، فهم جاؤوا لاستئصال الثورة والقضاء على الثوار، وتحويلها سريعا لثورة مضادة. وتذكروا جيداً أن أنصاف الثورات مقابر للثوار.. "خلو الحراك صاحي يا ثوار، فعدوكم غدار"..