(في رثاء الدكتور صبحي غوشة)
لمن يظنّ يوما أن النضال والأسر
تنقص عمرا أو تلين عزيزا، مضى أولئك تحت ناظري العملاق النبيل وعاش يحمل عزته
ويفخر بمواقفه وارتقى شامخًا. تقاطعت معه صديقًا ليس مثله ينسى.
ترحل روح الدكتور صبحي غوشة تزفها القدس من حارات جسده وأسواره القديمة في عمّان مساء يوم ربيعيّ يشهد على عنفوان الأمل الذي يزهر فينا إصرارًا على الحريّة والشرف والكرامة.
أذكر ابن
التسعين ربيعا إذ أرسل من السيارة عصاه العجيبة ذات الأصابع الأربعة في نهايتها لتتشبّث
بالأرض فتحمل ذلك الجسد الواهن الذي أتت عليه السنون، ثم استعان على حمل جسده
بذراع امتدت مرتجفة لباب السيارة وأنا متسمّر أريد له الوقوف دون اللجوء لمثلي
وأنا المحبّ المشفق.
فسارع سرجون الفلسطيني أخي لينتشل جسدًا أعياه حمل ثقيل ويوم عمل ممتد لصالح القدس. فلما استقام ووجد في عينيّ أسى نهرني بمنعة وثبات الصخرة اذ سمقت ترنو العلا: "يا دكتور منتصر، إن أهل بيتي يطلبون مني المكوث في البيت والراحة، ولكن كيف لي أن أموت في فراشي والقدس تحتاج مني عونًا...!، أنا لا أموت إلا قائمًا".
تلك
العزيمة التي نهلتها من دكتور صبحي –كما كنت أدعوه- والقوة التي تحرّرني من ضعفي هي
ما كان يدفعني منذ عرفته على وصله لا لشيء بل كي أنظر في ذلك الجسد النحيل، وبنطلون
يشده حزام فلا يجد ما يحتضنه من لحم. أسعد بنظراته من خلف عدسات سميكة لم تدعني
أستبين لون عيونه يومًا، وكم كانت تفرحني نكاته للدكتور عبد الباقي درّة لأني بها
أرى بسمته من تحت شاربين أبيضين لا شية فيهما كصفاء قلبه.
أذكر منك
يا دكتور صبحي ذلك التسعيني الذي يداوم دوامين صباحي وآخر مسائي للقدس.
أذكر من يستعين
على الأربع والعشرين ساعة بأربع وعشرين حبة دواء تنعش الأمل للقدس.
أذكر
صَغاري إذ اعتزمتَ أيها الأبيّ خدمتي ومن لبّوا دعوة اجتماع لتعدّ لنا القهوة
لعيون القدس.
أذكرك
تلاحقني بالاتصالات والإيميلات تحثني للعمل فالكلّ قد ينتظر وليس القدس.
أذكر
الاجتماعات في منزلك إذ يحبسك الشتاء كي تجمع أشتات العاملين من كل الطوائف للقدس.
أذكرك
تراجع عملي فترأف بي تحقّق في عملي وهمّك أن يخرج العمل بهيّا يليق ببهاء القدس.
اذكر من
يجمع القروش من حارات القدس القديمة ودكاكينها لمستشفى يداوي الإنسان في
القدس.
أذكر شغفك
وكأنك طفل صغير تحدثني عن خطط ومشاريع لا تسعفك الأيام على إنجازها للقدس.
أتترك
حبيبتك يا دكتور صبحي...
كم جمعتني
القدس بنجوم أضاءت لي حياتي فلا ليل يدوم على محبها ولا ظالم يعلو عليه ولا قيدًا
آسرًا مكبّله... ولكن أملاً يحدو ذلك التسعيني بأمّة لا أظنه يخيب...
القدس همّ،
وهم القدس.