(1)
نِمْتْ وفي رأسي هذا العنوان "فتنة رامي مالك"، واستيقظت بعد ساعات على مشهد انفجار عربة الماكينات في قطار متحرك على رصيف في المحطة المركزية للسكة الحديد في قلب القاهرة. كان المشهد صادما للدرجة التي تربك المشاعر، وتجعل من أي كلام مجرد ثرثرة لن تنفع في إصلاح الحياة البائسة لملايين الفقراء الطيبين في بلدي التعيس..
مواطن يهرول كشعلة نار متحركة يبحث عن مغيث، وآخرون لم تكن لديهم فرصة للنجاة واحترقوا في أماكنهم، كأني أشاهد أحد أفلام الأدرينالين التي تبالغ في تصوير الكوارث ومناظر الفزع، وتمتمت في نفس بالعامية المصرية: خلاص وصلنا للمحطة الأخيرة وبيولعوا فينا بجاز، فالنظام ينفق بمفاخرة لبناء قلعته الإدارية المهيبة، ويستنكر إنفاق الأموال لصيانة وإصلاح السكة الحديد..
النظام ينفق ويتفاخر بإنجازاته (غير المرئية) في الحرب على الإرهاب في سيناء، ويرفض بشدة خوض أي حرب ضد الإهمال وضد الفساد، مع أن ضحايا الطرق، وضحايا حوادث السكة الحديد في مصر، تفوق بكثير ضحايا الإرهاب في سيناء، وهذا يعني أن مثل هذه الحوادث والانفجارات ليست "حوادث فردية يقع مثلها في كل بلاد العالم المتقدم"، لكنها جرائم إهمال وفساد واستهانة بحياة الركاب والمسافرين والعاملين. فقد قرأت قبل ايام عن حادث خروج قطار دولي فائق السرعة عن مساره، في نهاية رحلة من ألمانيا إلى سويسرا، وأخذتني الاستنتاجات لكارثة دموية مخيفة.. تخيلوا قطارا يتحرك بسرعة الصاروخ يخرج عن مساره ويصطدم بأي شيء؟ ماذا تكون النتيجة؟ وعرفت أن هذا ليس الحادث الأول من نوعه، لكنه الثاني على نفس الخط، وظللت أتتبع تفاصيل الخبر وأعيد قراءته وأنا غير مقتنع بوجود قتلى ولا أعداد كبيرة من المصابين، فقط إصابات خفيفة لعدد قليل من الركاب!! وهذه المفارقة لا تعني أن الله رحيم مع الألمان وقاس معنا، لكن تعني أن هناك أنظمة تهتم بالصيانة وتأمين حياة شعوبها، وأنظمة أخرى تستهين بشعوبها ولا تقدم لهم أية خدمات إلا خدمة الموت السريع، ولا تعترف بأي تنوع إلا تنوع طرق وأسباب تعذيب وقتل المواطنين.
النظام ينفق ويتفاخر بإنجازاته (غير المرئية) في الحرب على الإرهاب في سيناء، ويرفض بشدة خوض أي حرب ضد الإهمال وضد الفساد، مع أن ضحايا الطرق، وضحايا حوادث السكة الحديد في مصر، تفوق بكثير ضحايا الإرهاب
هذا حالنا..
وهذه إنسانيتنا..
وهي كما أوضح المسؤول الكبير، تختلف عن إنسانية الألمان وحوادث قطاراتهم.
نحن نكتوي بالنار ثم نتخبط ونهرول في اللااتجاه، ونصطدم ببعضنا، ونقع على الأرض ثم نقوم، وقد يصدم بعضنا الآخر أو يصيبه بأذى، لكن هذا كله غير مقصود
(3)
إذا كان المقال الذي فكرت فيه ولم أكتبه عن "فتنة رامي مالك" فلماذا تركت العنوان وكتبت عن حادث القطار؟
لأنني لا أريد أن أهمل الصيانة، ولا أريد أن تفلت القضايا وتزيح بعضها البعض من غير فهم ولا حلول ولا فائدة باقية، لأنني لا أتبع عقلية الجري وراء الأخبار، فأسقط في أفخاخ الإلهاء وتشتيت العقل وتشويش الرؤية، ولأنني لا أحرث الزرع القديم قبل أن ينمو جريا وراء غرس جديد لا نرعاه حتى يثمر، ولأنني أيضا سأجرب معكم طريقة كتابة المقال بأنفسكم، أو استكمال المساحات الفارغة بإجابات تخص كل واحد فيكم، حتى نقلل من ممانعة الصدام بين رأيي ورأيك، لذلك أريدك أن تؤسس رأيك بنفسك، ولا تكتفي بقبول رأيي أو رفضه، من غير تفكير شاف..
لهذا، سأضع نقاط نقاش، وأسئلة مفتوحة، وارتكازات للتفكير، وكل منكم يحاول أن يستكمل الصورة التي تجعل تفكيره بعدُ أفضلَ وأشمل وأرقى من تفكيره قبلُ، وأظن أن هذا الأسلوب سيعفينا من سلبيات "عقدة الانهزام" في حوار مع الآخر؛ لأنها مكابرة خاطئة تحول دون تطوير فكر الفرد واقتناعه بما يمكن أن يقتنع به لو توصل إليه بنفسه، وليس عن طريق شخص آخر.
ولنبدأ:
1- فاز ممثل أمريكي من أصل مصري اسمه "رامي مالك" بأهم جائزة سينمائية في العالم، وقبلها فاز عن نفس الدور بـ17 جائزة من مهرجانات ولجان تحكيم مختلفة، بينها أهم جائزة للنقاد البريطانيين (بافتا)، وهذا يعني أن التقدير عن الأداء الفني للشخصية، مع تفهمنا لوجود اعتبارات وأهواء أخرى حسب كل لجنة تحكيم. لكن لما تم إعلان الجائزة، عبّر مصريون عن فرحهم، متعلقين بأصول الممثل، وكانت هذه الفرحة كافية لاشتعال النيران، حتى بين من لا يعرفون رامي من قبل، ومن لا يتابعون الأوسكار، ولم يشاهدوا الفيلم من الأساس.
لما تم إعلان الجائزة، عبّر مصريون عن فرحهم، متعلقين بأصول الممثل، وكانت هذه الفرحة كافية لاشتعال النيران، حتى بين من لا يعرفون رامي من قبل
ما يستحق الإشارة؛ هي عقلية تلقي الفيلم باعتباره فيلما لترويج الشذوذ، وليس فيلما لسيرة شخص مختلف في مجتمع كان من الممكن أن يحاربه ويعاديه لاختلاف لونه وجنسيته
5- في مسألة المصرية وعدم المصرية: لماذا يفرح مصريون كثيرون لفوز ميسي أو كريستيانو أو أردوغان أو برشلونة أو ليفربول أو حصول قطر على كأس آسيا، ولا يقيسون ذلك بجواز السفر؟
6- وفي المسألة المصرية أيضا: لماذا انقسمنا على موضوع التجنيس في قطر؟ ولماذا صمم طرف على اعتبار "المعز" سوداني، نسبة لأصوله وليس لجنسيته الجديدة، بينما دافع آخرون عن حقه في اللعب باسم بلده الجديد من غير عيب، ثم انقلبت المواقف نفسها في حالة رامي فصار المدافعون مهاجمين والعكس؟!
7- إذا كان البعض "يأنف" من الشذوذ "في فيلم"، فكيف "يألف" نفس الفعل "في دولة" مثل تركيا، ويرون بعقلانية (موسمية) أن ذلك "حرية فردية ليست من شأننا التدخل فيها"؟!
الانقسام هو الخطر الذي يستوجب أن نفكر فيه، لكي ننتبه لمعركتنا المصيرية، وهي معركة لا يعنينا فيها سلوك رامي مالك الفني ولا الشخصي، بل يعنينا مدى خدمته لقضايانا العادلة من عدمه
المصيبة ليست رامي مالك، ولا أردوغان، ولا قطر، ولا تركي آل شيخ، المصيبة هي الانقسام الخطير الذي يهدد كيان المجتمع المصري، ويضعفه إلى درجة غير مسبوقة، ليس في مواجهة الاحتلال الخارجي ولا ظلم الحكومات المحلية، لكن الضعف صار ذاتياً، بمعنى أن مجتمعنا خرج من دائرة الفعل غلى دائرة رد الفعل، ثم الآن إلى دائرة ردود الفعل المتشظية على رد الفعل، إذ يحدث فعل ما في العالم من حولنا فيعلق عليه مجموعة، فتنفجر تعليقات على تعليقات وردود فعل على ردود فعل، بحيث "يزيط المجتمع" على أي لعبة يرميها إعلام النظام وكتائبه الالكترونية أمام جوعى الكلام.
هذا الانقسام هو الخطر الذي يستوجب أن نفكر فيه، لكي ننتبه لمعركتنا المصيرية، وهي معركة لا يعنينا فيها سلوك رامي مالك الفني ولا الشخصي، بل يعنينا مدى خدمته لقضايانا العادلة من عدمه. وتذكروا أن إسرائيل لم ترجم تسيبي ليفني عندما جاهرت بتنويم كبار المسؤولين العرب في مخدع الخيانة للقضية الفلسطينية حتى الوصول إلى صفقة القرن.
أيها الأحباب.. اهدأوا واعتصموا وانتظموا، واستخدموا رامي مالك ومحمد صلاح ومنظمة العفو الدولية، وكيم كاردشيان لو أمكن، فالمهم هو عدالة القضية. وقديما قال رسولنا العظيم مبررا "الحيل الاستراتيجية": الحرب خدعة.
فاجعلوا حربكم مع أعدائكم وليس بينكم.
tamahi@hotmail.com
السيسي من الصواريخ البلاستيكية إلى خارطة مستقبل أفريقيا!