تكفي براهين كثيرة في المنطقة العربية لأن يقر كل عربي ومراقب بأن ما تعرض له الشعب السوري طيلة الأعوام الماضية؛ ارتبط بشكل أساسي بتحقيق النظام "انتصارا وسيطرة" ساحقين ومدمرين على الشعب السوري بشكل فظيع، شملا تحطيم كل الآمال الممكن الاقتراب منها مجددا.
اكتفاء طفح بالاقتراب من قضية "العرب الأولى"، فلسطين، فكانت ممارسات النظام السوري ضد أبناء القضية، لا تقل وحشية عن تلك التي لم تزل تمارس ضد السوريين، وكافية للنظر في بئر يعكس نظرات صهيونية سعيدة بما أنجزه النظام في عموم
سوريا، ليكون انعكاسا للمرآة في المنطقة العربية التي تشهد تغييرات جذرية تتعلق بثنائية الاستبداد والاحتلال.
ونعيد طرح السؤال الأهم في أيامنا: هل تحققت هزيمة الثورة؟ ولماذا يكتسح المحتل عوالمنا بتسجيل انتصارات مشابهة للتي يعلن عنها الطاغية؟
أسئلة مربكة في زمن عربي يعلن بعض حكامه تحديد "العدو" من شعبه، لا بل سحقه وتدميره وتشريده، وتسجيل بشائر النصر عليه. والحاكم المتصهين يمرر التمسح "بجوخ" المحتل ومصافحته إرضاء لعقدة الدونية. ما جرى قبل أيام في وارسو، وقبلها من إعلانات صهيونية وعربية، عن تسجيل اختراقات على جبهة
التطبيع مع الاحتلال، يرجع بشكل أساسي إلى تحقيق أهداف غاية في الأهمية في المشهد السوري، وتشكل مرجعا مهما لدفع عجلة "التطبيع" نحو الأمام لعدة أسباب مرتبطة به، أهمها:
- أن النظام الذي كان قائما على أركان شعاراته المرتبطة بالقضية الفلسطينية، تهاوى إلى الأبد، وأن معظم إنجازات
الأسد، فوق الجغرافيا والديمغرافيا السورية، باتت عوامل لا تنضب في حقل الوحشية والتجريب، وصولا لجرأة صهيونية بالتعاطي مع ملفات عدة تتعلق بالقضية الفلسطينية. فلم يعد سؤال: "لماذا وصلنا إلى ما وصلنا إليه" سؤالا فلسطينيا بشكل حصري، مع أن كثيرا من أدبيات حركة التحرر الوطني الفلسطيني كانت تراهن على جواب، ظل يصدح من بين أوراقها بشأن عمقها وشارعها وجماهيرها من المحيط إلى الخليج. ففي سوريا، أي بين الخليج والمحيط، تعرض الشارع لعملية إبادة جماعية، تم السكوت عنها أولا من أصحاب حركة التحرر، وصولا للنظام الرسمي العربي المشارك في عملية الإبادة مع نفاق المجتمع الدولي.
كل العناوين والملفات، التي يجري تداولها منذ انطلاق عملية "السلام" في مدريد إلى الآن، من الحدود إلى الاستيطان وملف القدس والمعتقلين واللاجئين، إذا دققنا في كفة الميزان السورية لهذه الممارسات، نجد أن ما تركه الأسد من رجوح للمحتل يجعله ينقلب على ظهره ضاحكا وفرحا، أمام مشهد ملايين السوريين وعشرات آلاف المعتقلين، وتدمير ملايين المنازل والمنشآت الصناعية والتجارية والعلمية وغيرها، وهنا يقفز سؤال: هل التطبيع والتصهين هو مصافحتك للعدو فقط؟ أم إن كل ما اقترفته الأسدية يخدم التطبيع والتصهين؟!!
التباكي على عملية التصهين الحاصلة، لن يعيد حقا؛ لأن الصمت عن عمليات الإبادة تجعلنا نشهد عملية تبادل حقيقي للمصلحة القائمة بين الطاغية والمحتل، تم التعبير عنها في أكثر من محطة ومفصل، حتى جهر البعض بهذه الحاجة لحماية المحتل وأمنه مقابل بقاء النظام في دمشق.
من كان يريد مقاومة التطبيع ومقاومة المحتل؛ هو الشارع نفسه المتهم بالعمالة والتآمر، الذي تم سحقه ببراميل متفجرة وصواريخ وطائرات روسية، وذخيرة ومليشيا إيرانية ومصرية، وتعاون استخباري ومالي عربي مع وحشية النظام؛ لأنها تحمي في النهاية تطبيعا سيأتي بعد حين، ونشهد فصلا صغيرا منه. وجمهور الطاغية يردد، في مضمار مقاومة التطبيع مع كثرة الصراخ حوله: لا نريد مقاومة التطبيع فقط، ففي كل حديث أن الممانعة موجودة لسحق ومحق العدو، وتدميره بخمس دقائق، ولسنا بحاجة لما يلي ذلك المحق؛ لأنه لا وجود بعد ذلك لتطبيع!! في أبد الطاغية المنظور لا وجود سوى لحطام يبعث في نفس العدو طمأنينة متبادلة بينهما.
لكن، بعيدا عن بعبعة الشعارات، ما رصد حتى الآن طيلة الأعوام الثمانية، خصوصا في باب حصاد الصهيوني لمنجزاته على جبهة النظام السوري هي الأعلى عربيا، حتى لو فتح خطوط التواصل المباشر مع أنظمة بعيدة جغرافيا عن سوريا. ما أنجزه الأسد في سوريا من محارق أفران ودمار شامل وتهجير وتعفيش وسطو حتى على ذاكرة أصحاب القضية وممتلكاتهم من أبناء فلسطين ونسائها؛ هو موضع حبور وسعادة عند الصهاينة والمتصهينين.
فلولا الإقدام الأسدي على هذا الانقضاض والوحشية، لما كانت الجرأة بهذه الفجاجة والوقاحة، ولولا سحقه الشعب ذخيرة الرفض للتطبيع ومقاومة المحتل، لما راهن الأخير على بقاء الأسد كخيار مفضل لحمايته، وأثنى عليها نتنياهو قبل أيام حين قال: "وجود أنظمة ديكتاتورية وقمعية مصلحة إسرائيلية استراتيجية". ولما كان التحذير من ابن خال الأسد على هذه النغمة منذ البداية، فإن ممرات التصهين العربي أبعد من" كسرة الخبز" التي تحدث عنها مايك بنس في مؤتمر وارسو. فهناك في دمشق يختزل الصهيوني كل أمانيه ومستقبله ببرميل ومعتقلات وملايين الضحايا التي فتكت بهم الأسدية، خوفا من مقاومتهم للطاغية الضرورة للمحتل.