أخطر ما تواجهه مجتمعاتنا هو تحقيرها لنفسها، ومن أبرز مظاهر التحقير اختزال كيانها وذاتها وقدراتها في شخص، فهو بالنسبة لها عامل الاستقرار النفسي، وضمان العيش بأمان، فتروح تبجله وتقدسه، ليزيد في وجدانها انهزامها ويضاعف التقديس من ضياع الذات وفقدان الثقة في النفس التي هي أساس أي نهضة.
هذا الحال المزري مستحكم منذ زمن، ولأن مجتمعاتنا خضعت لتشوه فكري وهزيمة نفسية لحقبة طويلة فكانت النتيجة انقلاب المفاهيم واستسلامها لخيار الانقياد، واعتقادها بأنها هزيلة وضعيفة وتائهة ونجاتها في أن تسلم نفسها للقائد أو الزعيم أو الشيخ.
اقرأ أيضا: متى يتوقف العرب عن عبادة الأصنام!
أغرقت شعوبنا في تبجيل الحاكم وتفننت في تعظيمه دون النظر في حالها وحاله وطبيعة علاقتها به، فليت التبجيل كان لأجل صون كرامتها وتنمية ثروتها وتطوير اقتصادها واجتماعها ووضعها في مصاف الدول المتقدمة علميا وتكنولوجيا، بل على العكس تماما، فالوضع مختل بشكل محزن.
نموذج الكوريتين
مثال كوريا الشمالية كالشمس الباهرة لمن له قليل من البصيرة، عندما تتابع كيف يعظمون زعيمهم ويبجلونه ويقدسونه وتنظر إلى بؤس عيشهم وتدني حقوقهم تفهم ما أقصده وتدرك ما أعنيه، فالرجل يستنقص ذواتهم بتعظيم الهوة بينه وبينهم من خلال الهالة الضخمة التي يصنعها لنفسه في عقولهم ووجدانهم، يبطش بهم فيلومون أنفسهم، ينهب فيحمدونه على أن ترك لهم بعض ما يسد الرمق، ويبني الترسانة العسكرية على حساب تعليمهم وصحتهم وأقواتهم فيفخرون بجبروته وقوته.
أنتقل إلى الشطر الآخر حيث كويا الجنوبية، وحاول أن تتذكر اسم أو شكل رئيسها، أنا متأكد أن كثيرا منا لا يعرفون الذين أشرفوا على انتقال كوريا الجنوبية الفقيرة في مطلع سبعينيات القرن الماضي لتكون من بين أكبر عشر اقتصادات في العالم اليوم.
ليس مهما، نعم ليس مهما أن تعرفوا من ساهم بدرجة كبيرة في نهضة كوريا الجنوبية، لكنكم تدركون تماما المستوى الذي وصلت إليه سياسيا واقتصاديا وثقافيا ومعرفيا.
اقرأ أيضا: الاستبداد تشويه للانتماء وضياع للهوية
تفقد جيبك أو حقيبتك، إنه "السامسونغ" الهاتف والشاشة الذكية الأكثر انتشارا في العالم، قيم مركوبك، إنها "الهانداي" و"الكيا" اللتان تنافسان اليوم السيارات اليابانية العريقة، إنها أكبر مطار في العالم، إنها من أجمل المدن معمارا وبنية تحتية، إنها....وإنها....
كوريا الجنوبية النموذج الاقتصادي الفذ تُعاقب فيها رئيسة بالسجن 24 سنة لتلاعبها بمال الكوريين الجنوبيين، فلا أحد فوق القانون في الدول المتقدمة، ولا قداسة ولا حصانة للمتلاعبين بأموال العشب حتى لو كانوا يوما على رأس هرم السلطة التنفيذية وممن ساهموا في نهضتها.
التحرر وليس البكاء على الأطلال
التجهيل وتزييف الوعي والانهزام وفقدان الثقة في النفس، كل ذلك يسهم في عجز المجتمعات المطحونة عن استغلال مناخ الحرية المتأتي من الثورات أو أسباب التغيير الأخرى والفشل في الخروج من شرنقة التخلف بل وتردي الوضع إلى أسوأ مما كان عليه سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، فما يكون من الذاكرة الضعيفة والنفسية المنهزمة المشوهة إلا التوق إلى الزعيم وعصاه والقائد وفتاته فالجهل والخوار يمنعانها من أن تنطلق لتصنع مجدها بذاتها.
ينبغي أن يترسخ في أذهاننا أن القائد الذي يستحق الاحترام هو الذي يجعل الاحترام مبدأ ترفع به الأمة رأسها، والزعيم الذي يستحق التقدير هو الذي يرفع من شأن الإنسان علما وصحة وعيا ومعرفة، والرئيس الذي ينبغي أن يطاع هو الذي يعلي من شأن المجتمع بتنمية اقتصادية واجتماعية ونهضة فكرية وعلمية.
حبانا الله بالعقل، وجعله مناط التكليف ومصدر التوجيه لنبدع ونسهم جميعا في مسيرة النهوض، والآفة الخطيرة أن تُصادر عقولنا قهرا أو طواعية عبر التزييف أو التجهيل لصالح القائد السياسي والزعيم الديني وشيخ القبيلة، ونتحول لمجرد مهللين ومطبلين.
ينبغي أن يترسخ في أذهاننا أن القائد الذي يستحق الاحترام هو الذي يجعل الاحترام مبدأ ترفع به الأمة رأسها،
اقرأ أيضا: من هم القادة العشرة الأبرز في تاريخ المسلمين الاستراتيجي؟