منذ أكثر من عشرين عاما، وعندما كان مركز الدراسات الحضارية يصدر التقرير الحولي "الأمة" كل عام. وكانت البداية بالأمة المصرية، وكتب مقدمته الأستاذ طارق البشري، ثم كان التقرير الثاني مع الأمة العربية، وكتب المقدمة وقتها الدكتور كمال أبو المجد، ثم كان العدد الثالث، وكان من المخطط أن يكون عن الأمة الإسلامية، وان يستمر التقرير عن حوليات الأمة الإسلامية.. وتم الاتفاق أن يكتب مقدمة التقرير الثالث الدكتور يوسف القرضاوي، وتم الحديث معه وطلبت منه أن يكتب مقدمة التقرير الثالث للحوليات والأول عن الأمة الإسلامية، وبالفعل كتب الدكتور يوسف مقدمة التقرير، وكان حول "الأمة الإسلامية.. حقيقة لا وهم"، وطلب مني أن نقرأها في المركز وننشر أو نحذف ما نراه مناسبا. وتمت مناقشة فضيلة الدكتور حول المقدمة، ولكن تم نشرها بالكامل. وقد علق الأستاذ السيد يسن، رئيس مركز الأهرام للدراسات وقتها، حول مقدمة الدكتور القرضاوي، وقام الدكتور بالرد عليه في جريدة الأهرام. ثم قام بتأليف كتاب بنفس العنوان حول ذات المعاني في العام التالي، وقام بنشره. وتناول فيه معنى الأمة ومعايير حقيقة وجود الأمة، كالمعايير التاريخية والجغرافية وغيرها.
وبعد مرور أكثر من عقدين من الزمن على إصدار تقرير الأمة الإسلامية (في عام 1993) نتوقف مرة أخرى أمام حقيقة وجود الأمة من عدمه. فإذا نظرنا حولنا، نجد عددا من الدول التي ينتمي أبناؤها للدين الإسلامي غير مترابطة، بل ومتصارعة، ليس فقط على مستوى هذه الدول فيما بينها، مثل الصراع داخل البيت الخليجي وما يطلق عليه بحصار قطر، والخلاف بين المغرب والجزائر حول الصحراء الغربية، والتنازع بين مصر والسودان حول منطقة حلايب وشلاتين، وغير ذلك الكثير بين الدول التي من المفترض أنها تنتمي إلى الأمة الإسلامية.. لكننا نجد
الصراعات تتوغل وتنتقل إلى داخل الدولة الواحدة، وعلى مستوى أبناء الدولة الواحدة نفسها، فنجد الصراع في اليمن بين أبناء الوطن الواحد في عدن أو في صنعاء أو تعز، وبين أبناء المدينة الواحدة.. ونفس الموقف في سوريا (حلب أو أدلب أو غيرها)، ناهيك عما يحدث لأبناء هذه الأمة في الصين أو ميانمار ومسلمي الروهنجيا أو في الفلبين، وغيرها من مناطق العالم. كما نجد الاضطهاد الذي يتعرض له أبناء هذه الأمة في الدول والمجتمعات الغربية، ولم يتحرك لهم أحد. كل هذا يجعلنا نتساءل مرة أخرى: هل هناك أمة إسلامية فعلا أم لا؟
وقبل أن نبحث في الإجابة على التساؤل المطروح، يجب علينا أن نراجع كيف تناول النص القراني لمصطلح الأمة. وهنا نجد أن القرآن الكريم تناول المصطلح في العديد من الأيات بمختلف المعاني، مثل من يجمعهم الزمن الواحد أو الأجناس من المخلوقات، وحتى وصف سيدنا إبراهيم بأنه كان أمة وغير ذلك من معان، ولكن جاء المصطلح عند مخاطبة الله سبحانه وتعالى للأمة المسلمة في آيتين في سورة الأنبياء وسورة المؤمنون. ففي الأولى قال تعالى: "إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ"، وفي الأخرى قال تعالى: "وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ". ومن هاتين الآيتين نجد أن هناك شرطين لوجود الأمة الإسلامية ولتكون حقيقة وليست وهما، وهذان الشرطان هما
الوحدة بين أبناء الأمة ووحدتها في توجهاتها ومنهجها وأهدافها، والشرط الثاني هو عبادة الله سبحانه وتعالى وتقواه. ومن هنا، نجد أن هناك شرط ضروري لوجود الأمة، وهو شرط الوحدة، والشرط الثاني وهو الشرط الكافي لتكون الأمة الإسلامية؛ شرط عبادة الله وتقواه. ولذلك، فإن عدم وجود الشرط الضروري، وهو الوحدة، يمنع حقيقة وجود الأمة، ويحولها لتكون حلما من أحلام
المسلمين؛ يأملون أن تتحول لواقع يعيشونه.
نعلم أنه منذ خلق الله سبحانه وتعالى آدم عليه السلام، وطلب سبحانه من الملائكة أن يسجدوا له؛ فسجدوا إلا إبليس عليه لعنة الله، بدأ مساران في الحياه: مسار الحق ومسار الباطل، أو كما يقول البعض، هناك مشروعان: مشروع الحق ومشروع الباطل. وبدأ الصراع بينهما؛ كل طرف يحاول أن تكون له الهيمنة والتوجيه. نجد ذلك في قصص الأنبياء كلهم، وكان كل نبي يُرسل إلى قومه؛ لأن الباطل قد عمّ عليهم، فيعيدهم الرسول أو النبي المرسل إلى الحق (في أغلبهم)، ثم يتوفى الله الرسول، فيعود قومه إلى الباطل مرة أخرى، فيتم إرسال رسول أو نبي آخر، وحتى الرسالة الخاتمة ودعوة الإسلام ونبي الحق عليه الصلاة والسلام، فإنه جاء إلى البشرية كافة، بل إلى العالمين: الإنس والجن، ودوامها بالقرآن الذي حفظه الله من التحريف. وبالتالي، لم تكن هناك حاجة إلى إرسال رسل آخرىن. واستمر الصراع - وما يزال - بين الطرفين أو المسارين، ويحاول كل مسار أن يتفوق ويُخضع المسار الآخر لسيطرته. وعلى مدى أكثر من الألف عام الماضية، ومنذ البعثة المحمدية، كانت هناك انتصارات مختلفة للطرفين، فاستطاع مسار الحق السيطرة والانتصار في أحيان عديدة، كما تمكن المسار الآخر، وهو مشروع الباطل، أن ينتصر ويسيطر في أحيان أخرى.
وتقتضي حكمة المولى عز وجل أن أصحاب مسار الحق لا يستهدفون الإضرار بمن يسير في مسار الباطل، بل يستهدفون هدايتهم ودعوتهم إلى الطريق المستقيم، ولما فيه الخير لهم وللبشرية جميعا. على العكس من ذلك، يستهدف أصحاب الباطل الضرر، بل والفناء لمن يسير في طريق الحق. وخير مثال لذلك منذ بدء الخليقة، قصة ابني آدم، فأحدهمأ وهو من سار في طريق الباطل قال لأخيه: لأقتلنك، فكان جواب أخيه الذي اختار مسار الحق وتقبل الله قربانه "لَئِن بَسَطتَ إلى يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبُ الْعَالَمِينَ" سورة المائدة، في حين أن أخيه الذي لم يُتقبل الله منه، وسار في طريق الباطل، "فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ" (سورة المائدة). وما نعيشه الآن هو نموذج آخر لهذه القصة الأبدية، فإن أصحاب الباطل لا يكتفون بما يحققونه من تقدم ونجاح دنيوي، ولكنهم يبحثون ويسعون إلى أن يتم تدمير والقضاء على أصحاب مسار الحق أو أن يسيروا في ركابهم ومعهم في مشروع الباطل. وهذا بالتأكيد لا يعني أن يسلم أصحاب الحق أنفسهم دون دفاع أو تخطيط لتحقيق النجاح المنشود.
أردت من هذا الاستطراد أن يتم توضيح المنهجية الربانية في تعامل كل من أصحاب المسارين تجاه المسار الآخر.
وهذه المنهجية يستخدمها أصحاب المسارين، سواء على المستوى الفردي كأفراد، فصاحب مسار الباطل لا يقبل أن يظل صاحب مسار الحق يحيا ويعيش يدعوا إلى مساره وحتى وإن لم يهاجم الباطل بشكل واضح ومباشر (الأستاذ البنا والملك فاروق نموذج وغيره الكثير)، ونفس المنهجية في التعامل بين الدول والمجتمعات، ونموذج ذلك ما نراه في اليمن؛ فسعودية محمد سلمان لا تقبل أن يعيش المجتمع اليمني في سعادة وحرية وخير، فلا بد من تدميره وإثارة الفوضى والشحناء فيما بين أبناء المجتمع الواحد؛ للوصول إلى ما نراه الآن من قتل وفقر وموت بين أبناء اليمن الواحد، سواء كان شمالا أم جنوبا, وبالطبع، نرى نفس المنهجية على مستوى البشرية والعالم أجمع فأصحاب الباطل ومن يدعون إليه على مستوى العالم يستهدفون مسار الحق وأصحابه بشكل كلى وجماعي. وهذا يحدث منذ ما يقرب من 1500 عام، مع رسالة الإسلام التي تستهدف البشرية كلها ورسوله صلى الله عليه وسلم الذي جاء رحمة وهداية للعالمين. وكانت البداية مع الفرس والروم ثم الحروب الصليبية، وأخيرا ما نعيشه الآن تجاه ما يسمى بالمشروع الغربي.
لقد استطاع أصحاب الباطل على المستوى العالمي أن يدركوا أن قوة أصحاب الحق تكمن في وحدتهم على الطريق المستقيم، وليس في وحدتهم على أي طريق آخر، لذلك سعوا إلى التغلغل داخلهم وتقسيمهم إلى دول وقوميات مختلفة، وذلك في فترة ضعف ووهن من أصحاب مسار الحق. وكان انهيار الدولة والخلافة العثمانية (مع ما كان عليها من ملاحظات) بداية الهيمنة لمسار الباطل على العالم. وتم تقسيم العالم الإسلامي، وانتفى مصطلح الأمة، ولم يعد حقيقة لغياب الشرط الضروري، وهو الوحدة. وأصبحت الأمة دول قُطرية في مصر والسودان وسوريا ولبنان والإمارات وقطر وتركيا وتركمانستان وباكستان وبنجلاديش وأفغانستان وطاجيكستان، وغيرها الكثير من عالمنا الإسلامي الذي تم تفتيته إلى دويلات وإمارات صغيرة. وتم عمل تجمعات إقليمية، وكانت البداية مع القومية، فهذا عربي وهذا تركماني وذلك فارسي والآخر بشتوني، وهكذا. لكن في أيلول/ سبتمبر 1969 جاء حريق المسجد الأقصى، وفي تقديري كانت هذه العملية الإجرامية هي الشعلة التي أيقظت المسلمين، وتفاعل المسلمون شرقا وغربا مع الحدث، وكانت السبب الأول لما أطلق عليه فيما بعد بالصحوة الإسلامية.
ومع خروج الإخوان المسلمين من السجون الناصرية في بداية السبعينيات، وتحركهم بدعوتهم ومنهجهم في العالم شرقا وغربا، حدث التوافق بينهم ومع الجماعة الإسلامية في الباكستان والهند وبنجلاديش، ونفس التوافق مع حزب الرفاه في تركيا، وامتدت حركتهم شرقا إلى ماليزيا وأندونيسيا، وغربا إلى أبناء الجاليات المسلمة في أوروبا وأمريكا الشمالية. وخلال السبعينيات من القرن الماضي، كان الإخوان والمنتمون إليهم والمتوافقون معهم؛ هم من يحملون شعلة الصحوة الإسلامية على مستوى العالم الإسلامي، بل في العالم أجمع. وعاد الحديث مرة أخرى عن الأمة الإسلامية وضرورة توحدها، مما دعا أصحاب مسار الباطل إلى البحث عن نوع آخر من التقسيم والتفتيت، وعادوا إلى الدعوة التي لم تقبل من الرسول عليه الصلاة والسلام بالا يذيق بعضهم بأس بعض، وبالتالي تم التخطيط للتقسيم على أساس طائفي ومذهبي. وحدثت الثورة الإيرانية عام 1979، وفي نفس العام، حدث التدخل السوفييتي في أفغانستان، وظهر ما أطلق عليها بالسلفية الجهادية، ثم القاعدة والجماعة الإسلامية في مصر، وغير ذلك من مسميات، وأخيرا ما يسمى تنظيم داعش. وبدلا من توجيه إمكانات وقوة المسلمين إلى تنميتهم وتجميعهم، تم استنفاد هذه القدرات في الصراع الداخلي فيما بينهم، كمذاهب وطوائف وبين أبناء الطائفة الواحدة، حتى وصلنا لما نحن عليه الآن في سوريا وفي اليمن وفي أفغانستان، وغيرها الكثير في بلاد المسلمين، ناهيك عما يحدث للمسلمين في بقاع مختلفة من العالم شرقه وغربه.
ولعل هذا يجيب على التساؤل المطروح: الأمة الإسلامية الآن حقيقة أم وهم؟؟ ولكن تلك الإجابة لا تعني أن نتوقف عن السعي لتحقيق حقيقة الأمة؛ لأنها كانت حقيقة على مدى أكثر من ألف عام، ولتحقيقها مرة أخرى يجب تحقيق الشرط الضروري كما ذكرت، وهو الوحدة بين المسلمين على مستوى الأقطار التي ينتمون إليها. وهذا يتطلب السمو على فتنة
الطائفية والمذهبية، كما يتطلب الابتعاد عن التصنيفات المختلفة؛ فهذا إسلام سياسي، وذلك إسلام سلفي، والآخر إسلام صوفي، وسني وشيعي.. وهكذا، والعودة مرة أخرى إلى أن الدين عند الله الإسلام وفقط. وهذا يحتاج إلى بذل الجهد، وتنقية النوايا وإخلاصها، والبعد عن تصفية الحسابات، وغيرها وغيرها من من أفعال. فهل نعود مرة أخرى إلى حقيقة وجود الأمة، كما كتب الدكتور القرضاوي في مقدمة التقرير المشار إليه؟
والله المستعان، وهو من وراء القصد، وهو يهدي السبيل.