«لا يمكن للحكومة أن تتجاوز أزمة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، إلا باستفتاء ثان» توني بلير، رئيس وزراء بريطاني أسبق لنترك الملاسنات في بروكسل بين تيريزا ماي رئيسة وزراء بريطانيا، وجان كلود يونكر رئيس المفوضية الأوروبية، خصوصا بعد أن قالت له ماي أمام كاميرات مؤتمر القمة الأوروبية "إنك وصفتني بالضبابية"، وهذا أمر ليس مقبولا. يرد عليها "وصفت المفاوضات كلها بالضبابية ولم أصفك أنت". المهم كانت مواجهة محرجة لماي بالفعل، لأنها سافرت إلى القمة الأوروبية تاركة في لندن خلافات لا تحصى حول موضوع خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي "بريكست"، خصوصا بعد أن فازت بمستوى متواضع في تجديد زعامتها لحزب المحافظين الحاكم، وتهديد أحزاب المعارضة بتقديم مشروع قرار لمجلس العموم بسحب الثقة عن الحكومة في أول فرصة. الساحة البريطانية تعج الآن بالمتناقضات والخلافات والملاسنات والاتهامات، بما يعكس حقا الوضعية الشعبية في البلاد ككل. لم ترجع رئيسة الوزراء البريطانية بشيء من بروكسل، إلا إذا اعتبرنا تطمينات الاتحاد الأوروبي انتصارا.
هذه التطمينات لا قيمة لها حقيقة في أوساط شريحة فاعلة في مجلس العموم البريطاني تضم أساسا المتمردين في الحزب الحاكم، والحزب الاتحادي الإيرلندي الصغير الذي من دونه لا يمكن لماي أن تحكم ساعة واحدة، على اعتبار أنه أسس معها شكلا من أشكال الحكومات الائتلافية، بعد أن فشلت في الانتخابات العامة السابقة في الحفاظ على أغلبية نوابها في المجلس. والحق أن التطمينات الأوروبية لا تنفع أيضا في أوساط حزب العمال المعارض والأحزاب الأخرى في البرلمان.
فالجميع يرغب في إعادة فتح المفاوضات مجددا مع الاتحاد الأوروبي للتوصل إلى اتفاق معقول بالنسبة للبريطانيين، خصوصا أولئك الذين يريدون الخروج من الاتحاد بأي ثمن. وحتى قبل أن يبدأ هذا الأسبوع وتنطلق معه هموم تيريزا ماي السياسية، ولا سيما خلال مداولات مجلس العموم، ظهرت على الساحة أصوات من داخل حكومة ماي هذه المرة، تتحدث عن إمكانية إجراء استفتاء ثان حول "بريكست"، على أساس أن البرلمان عجز حتى الآن عن الموافقة الضرورية على الاتفاق الذي قدمته ماي. وهذا الاتفاق هو الوحيد ولا بديل له، كما أن المفوضية الأوروبية أعلنت عشرات المرات ألا يحلم أحد في لندن في إعادة التفاوض حوله، أو إطلاق مفاوضات أخرى جديدة.
إما هذا الاتفاق الذي يتضمن حدودا ضمن المملكة المتحدة نفسها! أو الخروج بلا اتفاق، أو عدم الخروج نهائيا. غير أن الأمر ليس كذلك على الساحة البريطانية، فهناك من يطالب باستفتاء ثان، وهناك من يدعو إلى الخروج بلا اتفاق، ومن يقول بأهمية عقد اتفاقية على طريقة النرويج مع الاتحاد الأوروبي، أو على طريقة كندا معه. اقتراحات "بل أحيانا تحركات" كثيرة بعيدة تماما عن الاتفاق الذي حملته ماي من بروكسل، كلها تسهم في بناء كابوس بات من الضخامة حيث خرجت في أحيان كثيرة اللغة السياسية عن سياقها اللائق بين المختلفين حول "بريكست" أو حول مستقبل العلاقة بين المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي بعد الخروج.
الشيء المؤكد في بريطانيا الآن هو أن الاتفاق هو الوحيد ولا بدائل له، وأن تيريزا ماي ستقاتل حتى النهاية ضد فكرة إجراء استفتاء ثان، متذرعة بأنها لا يمكن أن "تخون" الذين صوتوا للخروج من الاتحاد في الاستفتاء الذي جرى عام 2016. لكن يبدو أن الأمور لن تسير وفق هذه الرؤية التي لا تحتضن أي بدائل لحلحلة أزمة الخروج هذه. فالخلاف حول موضوع الاستفتاء الثاني بدأ يظهر داخل الحكومة نفسها، ما يعزز احتمالات انفراط عقدها مبكرا جدا.
الحل لا يمكن في أن يكون "خروجا بلا اتفاق" إذا فشل الاتفاق الحالي في العثور عمن يؤيده، علما بأن رئيسة الوزراء سحبت التصويت عليه بعد أن تأكدت بأنه سيسقط بنسبة ساحقة من أصوات نواب مجلس العموم، وهي الآن تتحين الفرصة لطرحه على التصويت، وتحاول أن تقذف به إلى مطلع العام المقبل. والخروج بلا اتفاق يعني أن هناك مصائب اقتصادية اعترفت بحدوثها جهات مثل وزارة المالية نفسها ومعها بنك إنجلترا المركزي، بل إن بعض الجهات اعتبرت أن بريطانيا لا تستطيع أن تتحمل تبعات مثل هذا الخروج، في مجالات كثيرة، بما في ذلك توريد الغذاء والدواء وحركة النقل، حتى التعاون الفضائي.
أي لابد من اتفاق ما بصرف النظر عن طبيعته ينظم العلاقة المستقبلية بين لندن
وبروكسل، لكن يأخذ في الحسبان كل التبعات التاريخية التي ظهرت فجأة على السطح.
الأيام الفاصلة إلى نهاية العام الجاري ستكون الأعنف سياسيا على الساحة
البريطانية، ليس بسبب تمسك الأطراف المتعارضة بمواقفها المعروفة حيال
"بريكست"، بل لأن المعسكر السياسي الذي تستند إليه تيريزا ماي بدأ يظهر مواقف
مغايرة لها، ولا سيما في موضوع الاستفتاء الثاني. فهذا المعسكر يعتقد أن فشل
السياسيين في الاتفاق، لابد أن يقود فورا إلى الشعب البريطاني ليقول كلمته الأخيرة
بعد أن بانت الحقائق كلها.
عن صحيفة الاقتصادية السعودية