(1)
الكل خاسر في مظاهرات باريس، والكل خاسر في مقتل ريجيني وخاشقجي ومئات الآلاف من المجهولين الذين فقدوا حياتهم تحت عناوين من نوع: قصف (كذا).. ومقتل (عدد)... أو انفجار يؤدي إلى مقتل (عدد)... حيث لا أسماء ولا تفصيلات، حتى أصبح القتل حدثاً عادياً، والكل خاسر في لغز اختفاء مصطفى النجار، وقبله وبعده مئات من الألغاز ذات الدلالة السياسية والقمعية.
لكن كيف؟..
كيف يكون الكل خاسرا في صراع بين طرفين؟
يمكنني الإجابة بطرافة من خلال نكتة مصرية شائعة تصلح للتعريب، والنكتة المعدلة تقول: اثنين عرب كانوا بيلاعبوا بعض شطرنج (أو أي لعبة تانية) والاتنين خسروا.
(2)
هذا لا يحدث في النكت فقط، لكنه يحدث في الواقع بصور ودرجات متباينة، لذلك يمكن عولمة النكتة بدلا من الاكتفاء بتعريبها؛ لأنني في هذا المقال سأحاول تبيان وتفنيد خسارة الطرفين في مظاهرات باريس، وأتعشم أن يؤدي اتباع نفس النهج لفهم خسائر الجميع في قضايانا العربية، وفي مجمل قضايا العالم المأزوم الآن.
(3)
في
فرنسا قبل خمسين عاماً كان الغضب في الربيع، وكان "الحالمون" يرفعون شعارات الحرية والخبز، يدافعون عن الرغبة والأمل والخيال والهوية، ويرفضون الجشع والملل والهيمنة الأمريكية وتحكمات أباطرة الشركات الكبرى. أما الغضب الفرنسي هذا العام، فقد جاء في الخريف.. خمسون عاما تبدل فيها الربيع الفرنسي إلى خريف، ثورة أيار/ مايو 68 لم تكن ثورة فرنسية، لكنها انطلقت لأسباب فرنسية، وحملت أهدافاً إنسانية لذلك تحولت إلى ثورة شبابية عالمية من طوكيو غلى نيويورك مرورا بربيع براج ومظاهرات روما ومدريد، والكعكة الحجرية في ميدان التحرير، وصيحات الطلاب المصريين المحتجين ضد المحاكمات الصورية لجنرالات النكسة. في أيار/ مايو 68 كان الطلاب أسبق من العمال، وكان هناك مثقفون من وزن سارتر وديلوز ومونتان وموران ينزلون إلى الشوارع ويوزعون منشورات التحريض ضد الجنرال العجوز ديجول، برغم مآثره التاريخية في تحرير فرنسا. وكانت هناك اعتصامات السينمائيين وصيحات فرانسوا تريفو وجان لوك جودار، كما كان منظر
الثورة راؤول فانيجيم يرصد مشاهد الكرنفال لثورة تدور حول الحب لا الحرب، حول الحرية لا الخبز الذي أشعل الثورة الأم.. لكن كل هذا الزخم الثقافي لم يظهر في الخريف.. كانت ثورة أسعار وضرائب ومطالب معيشة تخلو من الوهج النوراني الذي التصق باسم باريس؛ كشعلة ثقافة تقف على الضد من ثقافة الماك الأمريكية.
لكن لماذا؟..
لماذا ذبلت أوراق فرنسا وبدت شاحبة بهذه الصورة الصفراء؟
(4)
يتصور البعض أن تعليق قرار الحكومة الفرنسية لمدة ستة أشهر بمثابة انتصار "ثوري"، لكنني أعتبره خطة مماطلة لامتصاص فورة الغضب، خاصة وأن رفع أسعار الوقود في الشتاء يساهم في جذب قطاعات أوسع من المتضررين، خاصة في الريف، لكن تأجيل ذلك إلى الصيف سيبطئ من تفاعل الكثيرين، ويعطي فرصة للإعلام لاكتساب القطاعات المتذبذبة على أرضية التطور الحضاري باتجاه الطاقة النظيفة، ودور فرنسا كطليعة للتحضر والحفاظ على
البيئة.
النقطة الثانية، أنني ممن يضعون الشعب الفرنسي ضمن "الشعوب العنيفة"، فالتاريخ يؤكد أن انفلات الشخصية الفرنسية من ضوابطها الحاكمة يعيدها إلى حالة العنف والدم التي مارستها طوال تاريخها، منذ الملكية وحتى ثورتها الدامية (قياسا للثورة المجيدة في بريطانيا مثلاً)، وكذلك في أسلوبها الاستعماري، وما حدث في الجزائر مثلا سجلّ مروع وفظيع، كما أن ثورة مايو 68 لم تكن بعيدة عن العنف، حتى وإن تخفى تحت أغطية فلسفية للفوضويين والعدميين، وهذا لا بد وأن يكون حاضرا في ذهن السلطة، فتدبرت أمرها للإبقاء على المارد في القمقم تحت السيطرة في جولة تالية.
النقطة الثالثة، أن فرنسا الفرانكفونية بيسارها المنفتح تعرضت لخطة "أمركة" ممنهجة، حتى صارت أنجلوفونية الطابع والأخلاق والسياسات، وصارت تابعة لأمريكا في التحالفات والتوجهات. وقد حدث هذا تدريجيا بعد اهتزاز صورة ديجول أثناء ثورة 68، ما جعل الحكام الذين أعقبوه يتخوفون من غضبة اليسار، ويسعون لتطويق العمال والطلاب باعتبارهم القوى المزعجة للحكام، حتى جاء الوقت الذي تولى فيه ساركوزي السلطة فتجاسر في بداية رئاسته، وتعهد بالقضاء على مكتسبات وأسباب ثورة الحالمين في مايو 68، واعتبر أنها "مؤامرة الكسالى" التي أدت إلى رخاوة في المجتمع الفرنسي؛ أضرت بقيم العمل والإنتاج، ومنحت الطلاب حق الدلال على الدولة بلا وجه حق.
القصة إذن طويلة، والثأر إذن في خلفية القرارات، واليمين إذن ينتفض لهدم ما تبقى من قيم للحرية والعدالة الاجتماعية تدفع المواطن لمحاسبة أصحاب القرارات واصحاب الأموال، لكن إجابة الثوار هذه المرة، وشعاراتهم، وأسبابهم قبل كل هذا، خسرت الكثير من العمق الفكري والفني، كما خسرت الكثير من "المشهدية" أو الأداء الكرنفالي الذي تميزت به ثورة مايو ـوكتب جي ديبور من وحيها كتابه عن مجتمع الاستعراض.
لكن ماذا حدث في فرنسا؟..
ماذا حدث للمشهد؟
(5)
في فرنسا تنتعش حركات النشطاء المدافعين عن البيئة، والمطالبين بحماية الكوكب من التلوث، ويبدو ماكرون يسعى لتحقيق خطوة مهمة في تطبيق هذه المطالب، وهذا يعني أن الدولة في فرنسا ناشطة جيدة في ملف التغيرات المناخية وحماية الأرض، لكن الصدام حدث، فهل هو صدام مع الهدف؟ أم صدام في طريقة تطبيق الهدف؟
ثورة 68 كانت تجيب وتقدم المفاهيم والصور والأفلام، أما غضبة "السترات الصفراء" فاكتفت بالاحتجاج.. تقدم سكان الأرياف ومتضرري الطبقة الوسطى للدفاع عن معيشتهم، وتراجعت نخبة باريس للدعم من وراء شاشات الموبايل وتأييد حق الاحتجاج، فكيف يمكن لنا الحديث عن المكسب "الثوري" إذا انتصرت حركة القمصان الصفراء؟ هل يقتصر الأمر على استمرار دعم الوقود الأحفوري وتأجيل بدائل الطاقة؟ وهل يمكن خلال الشهور الستة (فترة تعليق القرار) أن ينبت رأس لحركة المحتجين، بحيث تتمكن من التفكير وإظهار موقفها الداعم لدعم الطاقة البديلة، مع تحميل نفقاتها لأباطرة الصناعة الذين أفسدوا الكوكب وثقبوا الأوزون، بدلا من فئات المزارعين الصغار وثكالى الطبقة المتوسطة التي تعاني من ضربات مستمرة منذ حققت مكاسبها في مايو 68؟
الأسئلة مفتوحة، لكنني أنبه إلى أن ما يطرحه ماكرون هو مطلب أصيل لكل مثقف فرنسي ولكل إنسان متحضر.. المشكلة فيمن يدفع فاتورة إصلاح الخلل. هل يدفعه الفقراء الشغيلة من العمال والفلاحين والمنتجين الصغار؟ أم يدفعه اصحاب المصانع وواضعوا التشريعات وصانعوا السياسات التي أفسدت البيئة، وأدت إلى نمو أرصدة المفسدين الذين يريدون اليوم أن يدفع الفقراء عوضا عنهم؟
أمامنا عدة أشهر لنفكر معاً في وسيلة لا تعطل ماكرون في تنفيذ خطة الطاقة النظيفة، فلا خلاف على ذلك.. الخلاف: من يدفع؟ وإجابتنا معروفة، وهي حسب نزار قباني: فإن من فتح الأبواب يغلقهــا/ وإن من أشعل النيـران يطفيهـا.
فليدفع من ثقبوا الأوزون..
tamahi@hotmail.com