ليس تقليلا من حادثة القتل الشنيعة بحق الصحفي البارز "جمال
خاشقجي"، المقتول غدرا داخل قنصلية بلاده في مدينة "إسطنبول"
التركية، في سابقة خطيرة في تاريخ الاغتيالات السياسية العربية، بل جرس إنذار
لجرائم ربما تكون أبشع مما حدث مع "خاشقجي" بتوجيه مباشر وغير مباشر من
أعلى سلطة في بلادنا المنكوبة بحكامها، ويتم التعتيم عليها؛ لأن الضحايا لا
يتمتعون بالشهرة الكافية، سواء أكانوا صحفيين أو معارضين سياسيين.
قضية
"خاشقجي"، والذي بات أكثر صيتا وشهرة بعد مقتله، ليست ظاهرة بقدر ما هي
حالة متفشية في الأنظمة القمعية البوليسية التي لا تتحمل إسداء رأي مخالف، أو حتى
تقبل النصح بغرض الإصلاح، كما كان ديدن الصحفي الراحل، حيث أن الرجل لم يكن يوما
معارضا لنظام الحكم السعودي أو النظام الملكي من حيث المبدأ، بل كان كاتبا إصلاحيا
ناصحا أمينا، ومعاتبا رقيقا. فالقضية لم تفضح فقط أسلوب وإدارة الحكم في النظام
السعودي في عهد محمد بن سلمان الحاكم الفعلي للبلاد، والذي لم يعد يسانده على ما
يبدو إلا ترامب والسيسي ومحمد بن زايد، بحكم المصلحة المشتركة، والذي أثبت أنه
أقرب لعصابات المافيا، بل كشفت الوجه الزائف للغرب المتشدق باحترام الحريات
الشخصية وحقوق الإنسان، حيث قلب الدنيا ولم يُقعدها على
جمال خاشقجي منذ اختفائه،
قبل الإعلان عن مقتله، على نحو يُراد له أن يُنسينا تستره (أي الغرب) على آلاف
الجرائم في مناطق مختلفة من العالم لحاجة في نفسه أخفاها.
وعلى
الجانب الآخر، فقد غض الطرف بكل خسة إلى حد التواطؤ عن كل الجرائم التي حدثت في
عالمنا العربي خاصة ودول العالم الثالث عامة، لا سيما مئات المعتقلين المعروفين
بالاسم من علماء ورجال أعمال وقادة رأي رجالا ونساء في المملكة تحديدا، فضلا عن
آلاف الموتى في السجون
السعودية، وكذلك الإماراتية، ولا ننسى هنا جرائم التحالف
السعودي الإماراتي في اليمن، والتواطؤ الأكبر كان على جرائم السيسي منذ انقلابه
على شرعية المصريين في صيف 2013، حيث عنوانها الأكبر مذبحة رابعة والنهضة التي راح
ضحيتها المئات قتلا وحرقا وقنصا عبر الشاشات وعلى الهواء مباشرة، فضلا عن جريمة سيارة
الترحيلات التي راح ضحيتها 37 معتقلا خنقا بالغاز، وما بعدها من جرائم قتل خارج
القانون وإخفاء قسري ومصادرة للأموال.. ورغم ذلك، لم نسمع الحديث عن عقوبات دولية
أو حصار دولي على نظام السيسي أو النظامين السعودي والإماراتي، اللهم إلا نداءات
خجولة ذرا للرماد في العيون، رغم إدانات منظمات حقوقية دولية مستقلة كانت ولا زالت
صوتا للمستضعفين في الأرض.
هناك
عشرات الصحفيين ومعروفين بالاسم يقبعون في سجون السيسي، وسلمان، وابن زايد، ولا
أحد يتحرك، ولم نسمع صوتا لقادة الغرب في أمريكا وأوروبا.. هل لأن جمال
"خاشقجي" يحظى بشهرة عابرة للقارات؟ أم أن المبادئ تتجزأ حسب الحاجة
والمصلحة وأولوية الابتزاز؟ وكلامي ليس دفاعا عن الدولة السعودية بطبيعة الحال،
فكاتب هذه السطور يختلف قلبا وقالبا مع توجهات الدولة السعودية، بقدر ما هو رفض
للاستخفاف بعقولنا مرة بعد مرة، وإيهامنا بأن الغرب حريص على
حقوق الإنسان في
العالم العربي بهذا الشكل المبالغ فيه. لذا، فالمطالبة بفتح كل ملفات انتهاكات
حقوق الإنسان والحريات أصبح واجب الوقت، حتى نكون أكثر اتساقا مع الذات، إذا كان
الغرب حريصا بالفعل على استجلاء الحقائق كما يزعم.
لست
ضد الحملة التي يقودها الغرب والشرق سعيا وراء حقيقة ما جرى للصحفي الحر الراحل
"خاشقجي"، لكني أرفض بشدة الكيل بعدة مكاييل في ما يتعلق بالجريمة ذاتها مع صحفيين آخرين، ونشطاء سياسيين معارضين في أي مكان في العالم شرقا كان أو غربا،
ذلك أنه لو فتحنا الملفات السرية والمعلنة لوجدنا ألف، بل مليون
"خاشقجي" منسيين خلف القضبان أو تحت التراب منذ سنوات ولا يُعرف عنهم
شيء، ذلك لأن ما يُعرف بالعالم الحر لم ينتفض غضبا انتصارا لقضيتهم أو التزاما
بالقيم والمبادئ بغض النظر عن اعتبارات اللون أو الجنس أو الشهرة، وكأن الغرب يطبق
مقولة الشاعر التي تقول: "قتل امرئ في غابة جريمة لا تُغتفر، وقتل شعب آمن
مسألة فيها نظر".