"البعض يرحل ليبقى".. كانت هذه تغريدة للكاتب المغدور به #جمال_خاشقجي،
على حسابه في تويتر، والذي يحمل شعارا "قل كلمتك وامش"! ياه.. كم كانت
لهاتين العبارتين (رغم قلة كلماتهما) من معنى ومغزى يلخص نهايته المأسوية، على يد
هولاكو العصر "محمد
بن سلمان" وزبانيته الذين مارسوا عليه أبشع أنواع
التعذيب والقتل والتمثيل بجثته وتقطيعها إربا إربا.. قطعوا أصابعه التي تمسك
بالقلم الذي يكتب به ناصحا وحبا لوطنه وخائفا عليه، قطعوا لسانه الذي يطالب
بالحرية، قطعوا رأسه الذي يحمل فكره، قطعوا جسده بالمنشار وهم يستمتعون بأنغام
الموسيقى، ووضعوه في أكياس وألقوا به بعيدا عن مسرح الجريمة!! أية وحشية هذه التي
مارسها هؤلاء الأوغاد القتلة على إنسان مسالم لا يملك غير قلمه؟! إنها أخلاق الغاب
وطبائع قطاع الطرق الذين يصطادون فريستهم ويتشفون في إذلالها ويتلذذون في تقطيعها
ويشتهون لحمها وتنعشهم رائحة دمها لحد الشبق.. إنهم الوحوش الآدمية!
ثمانية
عشر يوما على الاختفاء القسري لـ#جمال_خاشقجي؛ والسلطات السعودية تنكر معرفتها
بمصيره وتصر على أنه خرج من القنصلية بعد عشرين دقيقة من إتمام معاملته فيها، وهذا
ما أكده أيضا ولى العهد السعودي "محمد بن سلمان" لوكالة
"بلومبرج" الأمريكية في معرض حديثه معها، كما أن القنصل السعودي في
إسطنبول "محمد العتيبي" نفى نفيا باتا أن يكون قد احتجز في القنصلية، بل
زاد عليه بالقول: "نحن نبذل جهودا مضنية في البحث عنه"..يا فُجركم! وفي
مشهد أقرب ما يكون للكوميديا العبثية، اصطحب مراسل "رويترز" معه في جولة
تفتيشية داخل القنصلية للبحث عن "جمال
خاشقجي، فأخذ يفتح الدواليب والخزانات
لعله يعثر عليه مختبئا بداخلها؛ ليخرج ويقول لهم: "هاه أنا أهو، وضحكت
عليكم"!! أرجو ألا تضحك، فالمشهد كله عبثي، وزاده عبثا ذلك البيان السعودي
الذي صدر بعد ثمانية عشر يوما من اختفائه قسريا؛ يعترف فيه بموت خاشقجي إثر مشاجرة
داخل القنصلية مع خمسة عشر شخصا أرسلتهم السعودية لإقناعه بالعودة إلى بلاده، رغم
أنهم قالوا من ذي قبل إن "جمال كانت لديه الرغبة للعودة للسعودية"، وهنا
تنتفي حُجة الإقناع طالما كانت هذه رغبته. ولماذا يرسل هذا العدد الكبير من
الأشخاص ويكونون من رجال المخابرات والأمن الخاص والحرس الملكي، بل ومن الدائرة
الضيقة جدا المحيطة بولي العهد؟ وما دخل رئيس الطب الشرعي ومنشاره الكهربائي في
عملية الإقناع هذه!!
رواية
سخيفة لا تصدر إلا من معتوه ولا يصدقها طفل، حتى إذا ألغينا عقولنا وعطلنا ضمائرنا
وأعطيناها إجازة إجبارية، وصدقنا تلك الرواية السعودية الساذجة، فهذا لا يمنعنا أن
نطرح عدة تساؤلات: لماذا اختير مكان القنصلية بالذات ليتم فيها هذا التفاوض
(الإقناع) ولم يُختر مكان عام، في فندق أو مقهى أو حديقة مثلا؟ ولماذا حدثت المشاجرة
طالما كان الهدف نبيل وهو العودة للوطن؟ ولماذا صرخ؟ ما الذي فعلوه معه واضطره
للصراخ وهم الخمسة عشر رجلا؛ أهل خير ولا يريدون إلا الخير له والعودة به لحضن
وطنه وأهله وأحبائه؟! يزعمون أن هذا الصراخ أربكهم مما اضطرهم لكتم أنفاسه فتوفي
في الحال! وهو ما يطرح تساؤلا آخر: كيف لم يستطيعوا السيطرة على الموقف وهم من
رجال الأمن المدربين على مثل هذه المواقف؟! وكيف يحدث هذا في وجود طبيب؟ ولماذا لم
يحاول منعهم عن فعل هذا الجرم وهو ملاك الرحمة، ويقوم بإسعافه سريعا قبل أن تتدهور
حالته وتفضي إلى الموت؛ إذا كانت لم توجد لديهم نية مبيتة لقتله كما يزعمون؟!
وبالطبع لن أسأل سؤالا لا يقل غباء عن روايتهم: ولماذا لم ينقلوه إلى المستشفى على
الفور لإنقاذه، أو حتى للتأكد من وفاته وإبلاغ السلطات التركية بحالة الوفاة
المفاجئة لعمل اللازم، ونقل الجثمان تمهيدا لدفنه معززا مكرما، كما يقر الشرع
والعرف، طالما أنهم أهل خير ولا يبتغون إلا عودة ابنهم الضال؟!
رواية
سخيفة لا تنطلي إلا على أحمق كالذي صاغها وصدّرها للعالم أجمع، فلم يُعرف من قبل
عن "جمال خاشقجي" أنه من أرباب الشجار، بل كان وديعا ودودا لطيفا، لا
يتشاجر بالعضلات بل يتشاجر بالقلم، حتى مشاجرته بالقلم كانت وديعة أليفة لا يبغي
بها إلا الإصلاح وتقديم النصح لأولي الأمر، حبا لوطنه وخوفا عليه من سياسات حمقاء
غير مدروسة يتخذها هذا الأهوج المغرورMBS) )،
والتي من الممكن أن تعرض البلاد للإفلاس والتفكك والدخول في صراعات قبائلية ونزاعات
داخلية لا طائل لهم بها..
لم
يكن #جمال_خاشقجي يريد تغيير نظام الحكم في المملكة، بل إنه لم يكن يتصور المملكة
بدون آل سعود، وإن كان يرى على المدى البعيد ضرورة تحويلها لمملكة دستورية، ولكن
بالتدرج، وبمشاركة أكبر من الشعب في مجالس نيابية وتشريعية يكون لها السلطة في
اتخاذ القرارات كي لا ينفرد أحد بالقرار. كان يؤمن بالديمقراطية، ويرى أنها الحل
الأمثل لخروج المنطقة العربية مما هي عليه الآن من صراعات طائفية ونزاعات عرقية
وظلم وبطش حكامها وتخلف وفقر شعوبها وغياب العدالة فيها، لذلك كانت فرحته عارمة
بثورات الربيع العربي، وصدمته كبيرة بانتصار الثورات المضادة عليها، ولكنه لم يفقد
الأمل في شباب الأمة، وكان يرى أن هناك موجات ثورية قادمة لتعيد حيويتها من جديد
وتحقق أهدافها..
لم
يكفهم قتله وتقطيعه إربا إربا بل لا يزال طيفه (ولو كان حتى أشلاء) يؤرقهم،
فأرادوا أن ينالوا من سيرته العطرة، وأن يشوهوا سمعته الطيبة بتلك الفرية (تشاجر
مع الناس الطيبين الذين كانوا يريدون عودته إلى أهله وناسه)، وفاتهم أن يذكروا لنا
ماذا فعل بهم هذا الوحش، السوبرمان البالغ من العمر ستين عاما، والذي تشاجر مع
خمسة عشر رجلا؟ وما هي الإصابات والأضرار التي لحقت بهم؟!
ويبدو
أن كاتب الرواية السعودية حينما أحس بهزلية روايته وضعف حجته ورفض العالم لها، بل
واستنكاره بالإستخفاف بعقولهم على هذا النحو، فأراد أن يجملها بإدخال بعض
التعديلات عليها، فقال: كانت الخطة إذا رفض العودة هي أخذه من القنصلية إلى شقة في
إسطنبول، ومنها إلى السعودية، أي عملية خطف!! وكما يقول المثل: "جه يكحلها
عماها". فأنتم تثبتون على أنفسكم جريمة "الاختطاف" أو الاختفاء
القسري ومن داخل منشأة دبلوماسية، تستجوب المساءلة والمحاسبة القانونية فورا، فهل
مقرات البعثات الدبلوماسية، حسب "اتفاقية فيينا" للعلاقات الدبلوماسية
تعطي الحق بخطف المواطنين من داخل المقرات الدبلوماسية لبلادهم؟!
في
الحقيقة هذه أول واقعة تحدث في التاريخ، لذلك هزت العالم أجمع وأظهرت الصورة
البشعة لحكام المملكة العربية السعودية؛ التي لو أنفقوا ما في الأرض جميعا ومثله
لما استطاعوا أن يمحو أثر جريمتهم الشنعاء بتفاصيلها الوحشية التي يشيب لها
الولدان؛ من الضمير العالمي والوجدان الإنساني..
لقد
أنفق ولي العهد السعودي القاتل عشرات الملايين من الدولارات خلال العامين الماضيين
(منذ انقلب على ابن عمه وانفرد بالحكم) على شركات العلاقات العامة ومجموعات الضغط؛
كي تقدمه للعالم على أنه الرجل الإصلاحي المستنير الذي سيخرج البلاد من الظلمات
إلى النور، وأنه يحارب الإرهاب، فإذا بدماء #جمال_خاشقجي تضيع كل هذه المليارات
هدرا، وتثبت للعالم إنما هو أصل الإرهاب ومنبعه، وأنه رجل قبائلي متخلف تحكمه
غريزة الانتقام والتشفي في الضحية. إنه لا يختلف عن أجداده قطاع الطرق الذين
أقاموا مملكتهم بالقتل والسرقة والاغتصاب، ولن تنفعه تلك الملايين الجديدة التي
ينفقها الآن أيضا على هذه الشركات كي تبعد التهمة عنه، فصورته بالمنشار تتصدر
كبريات الصحف العالمية وتشير له بالبنان: "القاتل"..
لقد
أضاع دم خاشقجي حلم القاتل بالجلوس على عرش المملكة العربية السعودية، حتى لو برأ
نفسه بهذه الروايات الساذجة التي لا تنطلي على أحد؛ بأنه لم يكن على علم بالجريمة،
وقدم أكباش فداء بدلا منه. فالعالم ليس ساذجا كرواياته، ويعلم أن ليس هناك صغيرة
ولا كبيرة تجري بدون علمه، وقد قالها أخوه نفسه، الأمير "خالد بن سلمان"
سفير المملكة في أمريكا، في أعقاب اختفاء خاشقجي، ردا على ما يتردد عن مقتله نافيا
ذلك! لقد انتصر الدم على السيف.
لقد
أراد "هولاكو العصر" أن يسكت صوتا، فانفجرت في وجهه ملايين الأصوات، ولم
يعد يستطيع أن يواجهها بماله ولا بسلطانه ولا بمنشاره. فلا تزال في العالم ضمائر
حية يفزعها ما حدث، ولا يزال هنالك من يحملون القيم العليا والمبادئ الإنسانية
الرفيعة، ومنظمات حقوقية شريفة لا تشتري بالمال الخليجي، وصحافة حرة تقدس حرية
الرأي اتخذت من قضية خاشقجي رمزا للدفاع عما تؤمن به، نظرا للنهاية المأسوية التي
يندى لها الجبين للصحفي جمال خاشقجي، مما وضع الرئيس الأمريكي "ترامب"
في مأزق، وهو الصديق والمدافع عن القاتل "mbs" فلم يجد مناصا من تغيير موقفه. فبعد أن صرح بأنه مقتنع بالرواية
السعودية ويثق بـ"محمد ابن سلمان"، عاد وقال إنها لم تقنع أحدا، وخاصة
بعد هجوم أعضاء بارزين في الكونجرس عليه واتهامه بصلته بالقاتل ودافع عن نفسه
سريعا بأنه ليس بينه وبين ولي العهد علاقة شخصية، ولكنه لا يريد أن تخسر أمريكا
صفقات السلاح التي تبلغ قيمتها 100 مليار دولار، وما ستوفره من وظائف للشعب
الأمريكي! كما أنه أضطر أن يتخذ قرارا بمنع المشاركة في مؤتمر الاستثمار
"دافوس الصحراء" في الرياض، والذي كان "هولاكو العصر" يضع
عليه آمالا عريضة، ويعده إحدى مبادرات مستقبل الاستثمار ضمن رؤية السعودية عام
2030. اعتذر وزير الخزانة الأمريكية عن الحضور بعدما امتنعت غالبية دول العالم الغربي
عن حضوره، وقاطعته كبرى الشركات العالمية والمؤسسات الدولية، بل إن مؤتمر دافوس
العالمي تنصل منه وأعلن عن رفضه استخدام اسمه بسبب مقتل خاشقجي..
لقد
نجحت السلطات في تركيا في أن تنقل قضية #جمال_خاشقجي من قضية داخلية وقعت على أرض
بلدها؛ إلى قضية دولية وحدث عالمي هز العالم أجمع، وهذا يُحسب للقيادة التركية
ممثلة بالرئيس "رجب طيب أردوغان" الذي أدار الملف بحنكة سياسية بارزة
ومهارة عالية وبحرفية بالغ، تُدرس في إدارة الأزمات أكاديميا. فقد ضيّق الخناق حول
عنق القاتل إلى أن اعترف بجريمته، حتى لو نسبها لغيره، فأضفى المزيد على مصداقيته،
فقد قال: "وظيفتنا نصرة المظلوم، وهذا دين في رقبتنا"، وها هو يؤديه
لشهيد الكلمة #جمال_خاشقجي، فلم يضع دمه هدرا ولم يبعه في سوق النخاسة السياسية كي
يغتنم منه، بل أثبت أن تركيا الأخلاق والمبادئ تعلو على الصفقات السياسية الرخيصة..
لقد
كان في دماء #جمال_خاشقجي بعث جديد له وحياة مديدة له، واستطاع أن يحقق فيها ما لم
يحققه في حياته الأولى وما لم يكن يخطر على فكره..
إن
دماء خاشقجي ترسم الآن تشكيل الشرق الأوسط الجديد.. دماؤه زلزلت عرش المملكة
الظالمة، وسوف تطيح بحكم فاسد خائن للأمة الإسلامية ولو بعد حين.
لقد
قلت كلمتك يا شهيد القلم، ولكنك لم تمض بعد، فلا تزال كلماتك تهز أركان العالم
كله. أنت موجود بقوة رغم رحيلك؛ لأنك من هؤلاء البعض الذين قلت عنهم: يرحلون
ليبقوا..