لقد عنونت هذه السلسلة من المقالات باسم وثيقة منظومة
القيم. ولا أدعي أنها حصرية أو كاملة، ولكن ربما تشكل نواة لجمع الفرقاء في عالمنا الإسلامي على أجندة عمل؛ يكون فيها تقييم الأداء في الأنظمة والدول والشعوب طبقا لما تحمله من هذه القيم.
1- العدل
أزعم أن هذه القيمة الوحيدة التي لا حدود لها، فلا يوجد عدل نسبي ولا حد أقصى أو أدنى للعدل. العدل عدل أو أن هناك ظلما بدرجات متفاوتة. ولا يوجد على سطح الأرض سليم فطرة لا يرتضي العدل. وقد قامت وما زالت حضارات بسبب العدل فقط. ورُوي أن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كان يقول: إن الله يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا يقيم الظالمة وإن كانت مسلمة.
ولذلك، ليس مستغربا ألا تجد لفظ "إن الله يأمر" في القرآن الكريم إلا وجدته مقترنا بالعدل: "إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربي"، "إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلي أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل"، "قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ".
وهو الشيء الذي أمر الله بإنفاذه في أحلك اللحظات وأصعب المواقف البشرية، حتى حين يتعلق الأمر بأولادنا وذوي أرحامنا. أنت مكلف شرعا بأن تشهد على ابنك السارق أو أبيك الظالم أو أخيك القاتل، أو حتى على نفسك: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيّا أَوْ فَقِيرا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرا". الأغرب من هذا، أنك إذا تعرضت لظلم في موقف معين ومن طرف ما، فلا يجوز لك أن تظلمه في موقف آخر تحت مظلة هذه بتلك: "ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا". والآية تخاطب المؤمنين بعد أن صدهم الكافرون عن دخول البيت الحرام يوم الحديبية، فتقول لهم ولا يحملنكم بغض قوم، لأن صدوكم عن المسجد الحرام، أيها المؤمنون، أن تعتدوا على حكم الله فيهم، فتجاوزوه إلى ما نهاكم عنه، ولكن الزموا طاعة الله فيما أحببتم وكرهتم.
بل حتى ولو كان العدل مع من تكره: "يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ". والشنآن هو البغض.
وقد اختصر الله مهمة الرسل في إحدى آيات القرآن على أنها إقامة العدل المطلق بين الناس من آمن ومن كفر، فالله لم يجعل مهمتهم أن يجعلوا الناس مؤمنين، ولكن مهمتهم أن يدعوا إلى الله ويقيموا العدل: "لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ" "فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ".
وخطب رسول الله صلالله عليه وسلم بعدما شفع الحبيب ابن الحبيب أسامة ابن زيد في امرأة قرشية سرقت، فقال: "أمَّا بَعدُ، فإنَّما أهلَكَ النَّاس قبلَكم أنَّهم كانوا إذا سَرَقَ فيهِم الشَّريفُ تركوهُ، وإذا سَرَق فيهم الضَّعيفُ أقاموا عليهِ الحدَّ، والذي نفسُ محمدٍ بيده، لو أنَّ فاطِمةَ بنت محمد سرقتْ لقطعتُ يدَها". وقال أيضا: "إنَّ المُقسِطينَ عند اللِه على منابرَ من نورٍ عن يمينِ الرَّحمنِ عَزَّ وجَلَّ، وكِلتَا يديهِ يمينٌ، الذين يَعدِلونَ في حُكمهِم وأهليهِم وما وُلّوا".
إن كل مانعانيه دول العالم المتخلفة إنما هو نتاج غياب العدل. فبغض النظر عن آليات نظام الحكم والعملية السياسية فيه، فإن وجود منظومة عدل يلجأ إليها الناس كانت ستكون كافية بتقويم كل اعوجاج وتصحيح كل الأخطاء ورفع كل المظالم.
كيف ننتج منظومة عدل؛ والأستاذ الجامعي يحابي ابن زميله، والقاضي يعين ابنه، والضباط يساندون بعضهم على حساب الناس، وابن ولي الأمر في أي موقع أصبح ولي أمر، و"اللي له ظهر لا ينضرب على بطنه" كما يقول المصريون.
لا ننكر دور السلطة وأولي الأمر في تحقيق قسط كبير من العدل، ولنا معهم دور نستكمله في المقال القادم. أما نحن العوام فهل نعدل بين أبنائنا؟ وهل نعدل مع أهلينا وجيراننا حتى ولو أننا لا نحب بعضهم، ولا أقول نبغضهم؟ هل نتعامل بالعدل حتى في وقوفنا في طوابير الخدمات لتلبية احتياجاتنا؟ أو حتى في قيادتنا للسيارة وتعاملنا مع كل السائقين؟ هل نعدل في نظراتنا وابتساماتنا بين كل الناس؛ الغني والفقير والقوي والضعيف؟ هل ننصف الناس من أنفسنا ونعترف بأخطائنا حتى ولو ترتبت عليها خسارة دنيوية لنا؟