لفظ الطاعة يسري عليه ما يسري على لفظ البيعة. فالطاعة في الحس الإسلامي العام هي طاعة الله ورسوله وأولي الأمر والوالدين.. إلخ.
أزعم أن هذا الركن هو أسوأ ركن تم وما زال يتم استخدامه في جماعة
الإخوان المسلمين. نعم، تم تلبيس المعنى الشرعي للطاعة لهذه العلاقة التنظيمية، وأحسب أن جل الإخوان لو تخلف أحدهم عن حضور عمل دون عذر يحس بأنه إثم أو على الأقل يحس حرجا شرعيا في صدره، رغم أنه أمر لا إثم فيه على الإطلاق.
بداية، أنقل لكم نص كلام الإمام البنا عن الطاعة كاملا، حتى لا يظن البعض أننا اجتزأنا الكلام فأخرجناه عن معناه، وسامحوني للإطالة.
أريد منكم التجرد في قراءة النص، وتفكروا في أول انطباع يعطيه هذا النص دون تأويل ولا تحريف ولا ليّ للنص، ليعطي معنى أنت تفهمه وهو ليس في النص.
يقول الإمام البنا:
"وأريد بالطاعة: امتثال الأمر وإنفاذه توا في العسر واليسر والمنشط والمكره، وذلك أن مراحل هذه الدعوة ثلاث:
1– التعريف:
بنشر الفكرة العامة بين الناس. ونظام الدعوة في هذه المرحلة نظام الجمعيات الإدارية، ومهمتها العمل للخير العام، ووسيلتها الوعظ والإرشاد تارة وإقامة المنشآت النافعة تارة أخرى، إلى غير ذلك من الوسائل العملية. وكل شُعب الإخوان القائمة الآن تمثل هذه المرحلة من حياة الدعوة، وينظمها القانون الأساسي، وتشرحها وسائل الإخوان وجريدتهم. والدعوة في هذه المرحلة عامة.
ويتصل بالجماعة فيها كل من أراد من الناس متى رغب المساهمة في أعمالها ووعد بالمحافظة على مبادئها. وليست الطاعة التامة لازمة في هذه المرحلة، بقدر ما يلزم فيها احترام النظم والمبادئ العامة للجماعة.
2– التكوين:
باستخلاص العناصر الصالحة لحمل أعباء الجهاد وضم بعضها إلى بعض، ونظام الدعوة (في هذه المرحلة) صوفي بحت من الناحية الروحية، وعسكري بحت من الناحية العملية. وشعار هاتين الناحيتين "أمر وطاعة" من غير تردد ولا مراجعة ولا شك ولا حرج، وتمثل الكتائب الإخوانية هذه المرحلة من حياة الدعوة، وتنظمها رسالة المنهج سابقا، وهذه الرسالة الآن.
والدعوة فيها خاصة لا يتصل بها إلا من استعد استعدادا تاما حقيقيا لتحمل أعباء جهاد طويل المدى كثير التبعات، وأول بوادر هذا الاستعداد كمال الطاعة.
3– التنفيذ:
وهي مرحلة جهاد لا هوادة فيه، وعمل متواصل في سبيل الوصول إلى الغاية، وامتحان وابتلاء لا يصبر عليهما إلا الصادقون، ولا يكفل النجاح في هذه المرحلة إلا كمال الطاعة كذلك، وعلى هذا بايع الصف الأول من الإخوان المسلمين في يوم 5 ربيع الأول سنة 1359هـ.
وأنت بانضمامك إلى هذه الكتيبة، وتقبلك لهذه الرسالة، وتعهدك بهذه البيعة، تكون في الدور الثاني، وبالقرب من الدور الثالث، فقدّر التبعة التي التزمتها وأعدّ نفسك للوفاء بها" (انتهى كلام البنا).
المرحلة الأولى المقصود بها قبل الانضمام للإخوان والقيام بالبيعة، والمرحلة الثانية هي أول درجات العضوية ويسمى العضو "الأخ المنتظم"، والمرحلة الثالثة وهي "الأخ العامل".
بالله عليكم، ماذا يعطي هذا النص من دلالات؟ مجرد أن أصبح الإنسان عضوا في الجماعة وجب عليه بلفظ الإمام البنا "وشعار هاتين الناحيتين "أمر وطاعة" من غير تردد ولا مراجعة، ولا شك ولا حرج"، أيضا "وأول بوادر هذا الاستعداد كمال الطاعة".
فإذا أصبح أخا عاملا، وجب عليه بنص كلام الإمام البنا "ولا يكفل النجاح في هذه المرحلة إلا كمال الطاعة".
لماذا؟ نحن لسنا في معركة عسكرية يخوضها المسلمون مع الكفار. نحن نتكلم عن حركة مدنية دعوية تتخذ قراراتها بشورى وعلى علم.
نعم، كل الإخوان يقولون إنها طاعة مبصرة وليست طاعة عمياء، لكن بالله عليك أين البصيرة في هذه الألفاظ؟
أذكر أنني حضرت ندوة فكرية لمناقشة هذه الموضوعات، وكان أحد المحاضرين ممن يمثل وجهة النظر المحافظة التي تتبنى كل كلام الإمام البنا حرفيا، وهو أستاذ جامعي مرموق. لما عرضت عليه نص الطاعة قال: "ليس هذا ما أراده البنا ولا ما فهمته في دعوة الإخوان ولا ما تعلمته"، قلت له: هل يمكن أن نستبدل هذا النص بنص آخر يوضح حقيقة ما أراده البنا وما تعلمته أنت في الجماعة؟ فرد علي: "يا دكتور أليس القرآن حمّال أوجه؟"، قلت: نعم، قال: "أفنغير النص القرآني أم نترك كل إنسان يأخذ الوجه الذي يراه؟".
بصراحة غضبت غضبا شديدا وانفعلت في وجهه وعلا صوتي، وقلت له: "أتشبه كلام البنا بالقرآن؟!".
نعم، هذا منطق كثيرين، حتى ممن علقوا على مقالاتي أن نترك هذه النصوص في أدبياتنا في عام 2020، وليفهم كل شخص في أي مكان ما يريد حسب حاجته!!
لقد كان ركن الطاعة باستخدامه الواقعي (في وجهة نظري) أحد أسباب تأخر الإخوان المسلمين إلى اليوم في تحقيق آمال الكثيرين والاستجابة لطموحات أبنائها. بل وأزعم أنها أكبر عامل طارد لكثير من الكفاءات التي لم تتحمل هذا الأسلوب في المعاملات التنظيمية.
في بعض الأحيان كانت الأوامر التنظيمية غير مقنعة للأعضاء، وكان المسؤول لا يستطيع إقناع الأعضاء بالقرار، فيلتجئ إلى ركن الطاعة لينفذ القرار غير المفهوم أو الذي لا يبدو صحيحا.
نعم، كانت وما زالت الطاعة الكاملة هي المؤهل الرئيسي لمن يترقى داخل المنظومة الإدارية للجماعة. فكلما زاد سمع وطاعة العضو كلما زادت فرص تبوؤ لمنصب قيادي بغض النظر عن الكفاءة.
من هنا، لا تتعجب إذا امتلأت المناصب القيادية للجماعة بأشخاص منقادين لا قياديين. وكعادة الأشخاص المنقادين، فهم أقل قدرة على الإقناع أو حتى طرح آراء ومبادرات مبدعة. وبالطبع لا يحب قائد من هذا النوع أن يكون بجواره أو تحته في المستوى التنظيمي من هو أعلى منه فكرا وفهما وكفاءة، فمن ثم ينتقي من هو أقل منه كفاءة وأكثر طاعة للترقي.
الأخطر، أن درجة الطاعة في الجماعة لم تكن الطريق الأوحد للترقي الإداري داخل الجماعة فحسب، بل كانت حتى العنصر الأهم في الترشح للانتخابات السياسبة والنقابية والمحلية و..و..و.
أيضا لا أبالغ إذا قلت إنه في خلال العقدين الماضيين بالتحديد؛ انتهزت قلة (وأكرر قلة) من أصحاب القلوب المريضة من ذوي الكفاءات ركن الطاعة ليتسلقوا إلى مناصب قيادية داخل الجماعة، ثم تعاملوا بازدواجية ديناميكية مع ركن الطاعة (نفاق الكلمة الأصح)، فهم يجلسون مع المستوى الأدنى منهم وينتقدون قيادة الجماعة، ويُظهرون كيف أنهم لا يألون جهدا في النصح للقيادة والتوجيه وطرح كل الأفكار الجديدة ولكنهم يجدون صعوبات من القيادة الأعلى، فيمتصون غضب الأفراد على القيادة ويحصلون على درجة أعلى من السمع والطاعة والتقدير، وحين يجلسون مع القيادة الأعلى منهم ينبطحون إلى مستوى من الطاعة والاسترضاء مما لا يمكن تصوره. وهذه القلة لا يعلمها إلا عدد محدود من الإخوان ممن لهم تواصل مباشر دائم مع المستويات القيادية العليا.
بالطبع لا يوجد تنظيم في العالم أيا كان، حزبا أو جماعة أو جمعية، إلا ويوجد فيها التزام بقرارات المؤسسة إلى درجة ما، وهذا في جماعة الإخوان المسلمين يجب أن يسمى انضباطا وليس طاعة. ورغم أنه يجب أخذ درجة الانضباط في الحسبان عند الترقي في المناصب الإدارية داخل الجماعة، فإنها يجب أن تكون تالية في الكفاءة.
لقد ناقش العلماء في ندوة ميلانو مسألة طاعة المسؤول في
التنظيمات الإسلامية، وخلصوا إلى أنها تواص بالحق كما أسلفنا، ولا يأثم من لا يطيع.
الأمر الوحيد الذي يأثم فيه عضو الإخوان أو حتى المسلم غير المنتمي لأي تنظيم؛ هو أن تكون هناك مصلحة للمسلمين لا تتحقق إلا من خلال هذا الشخص ولا يقوم بتلك المصلحة. أؤكد مصلحة للمسلمين عامة، وليست مصلحة للتنظيم.
كما أن على جميع أعضاء الإخوان أن يعلموا أن انضباطهم في الجماعة لا يعفيهم من المسؤولية الشخصية أمام الله (وكلكم آتيه يوم القيامة فردا)، فعليه أن يُعمل عقله في كل ما يُطلب منه من تكليفات بغض النظر عن الجهة القيادية التي أصدرت القرار.
وهل هناك قيادة يمكن أن تحظى بشرف أعلى من أن تكون معينة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكلنا يعرف هذا الحديث؟
عن علي رضي الله عنه قال: "بعث النبي صلى الله عليه وسلم سرية، فاستعمل رجلا من الأنصار، وأمرهم أن يطيعوه فغضب، فقال: أليس أمركم النبي صلى الله عليه وسلم أن تطيعوني؟ قالوا: بلى، قال: فاجمعوا لي حطبا، فجمعوا، فقال: أوقدوا نارا، فأوقدوها، فقال: ادخلوها، فهموا، وجعل بعضهم يمسك بعضا، ويقولون: فررنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم من النار، فما زالوا حتى خمدت النار، فسكن غضبه، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فقال: لو دخلوها ما خرجوا منها إلى يوم القيامة، الطاعة في المعروف".
نعم، قيادة الإخوان لم تأمر أعضاءها بأن يلقوا بأنفسهم في النار، لكن أن تضعهم في مواجهات غير محسوبة وتعرضهم لمخاطر غير متوقعة العواقب، هو من شبيه هذا أيضا!!