الحقد والحسد كتفسير لسياسات "أبو مازن"

التقيت بأحد كوادر حركة فتح الذي أمضى ما يقرب من 15 عاما في السجن، ويدخل في عقده الخامس، ولا يصنّف نفسه على أي من أقطاب "فتح" الحاليين، وهو - مثل كثير من أبناء جيله - غدا من جموع العازفين والمتطيّرين الذين لم يعد يربطهم بفتح سوى ذلك الخيط والعصب القلبي الرفيع؛ إثر غياب الفكرة والبرنامج والقيادة الكاريزميّة.

قال لي صاحبنا، وهو يقيّم ما فعله أبو مازن مما اعتبره تمزيقا لأواصر فتح في السنوات التي "حكم" فيها منذ 2004 حتى اليوم، إنه إنّما يفعل ذلك انتقاما من فتح!! وحين سألته: لماذا هذا الانتقام؟ قال: لأنّ فتح سيّرت ضدّه مظاهرات عارمة عام 2003 عندما سمّي كأول رئيس وزراء للسلطة، وهتفت ضدّه وأظهرته كمتآمر مع المخططات الأمريكية والإسرائيليّة، وأطلقت عليه اسم "كرازاي فلسطين"، مقارنة بأول رئيس أفغاني تم تعيينه بعد الغزو الأمريكي لأفغانستان في 2001!! وأضاف الرجل أن أبا مازن لم تزل تعتمل في داخله عوامل النقمة والحقد!!

في الحقيقة، كان المرء يستبعد على أبي مازن مثل هذا الذي يُنسب إليه، وربما مال إلى اعتباره نوعا من المبالغات، لا سيما أنه كان يقدّم نفسه، كما أن المحيطين به والقريبين منه، كانوا يقدمونه كشخص عقلاني ومتوازن ويتمتع بمناقبيّة أخلاقيّة يُفترض أنها تفوق ما لدى طبقته السياسيّة من شيم. ويشار هنا إلى صفات النزاهة، والوضوح، والمصداقية، وعدم خداع الشعب!!

ولكن سيخبرنا السيّد "ندّاف أرغمان" (رئيس جهاز الأمن الداخلي الإسرائيلي - الشاباك) ويكشف لنا تلك الخاصيّة المستحوذة على سلوك أبي مازن تجاه غزة. ولتقييم أرغمان لشخصيّة أبي مازن أهميّة بالغة، ليس من باب ما تفترضه عليه مهنته من الحصافة وتوخّي الدّقة والحذر في اختيار العبارات فقط، بل أيضا لأن جدارة تلك التقييمات تأتي من درجة القرب والحميميّة التي غدت تربطه برئيس السلطة الفلسطينيّة. فقد غدا أرغمان من المثابرين على اللقاء المنتظم بأبي مازن ومن خلصائه وجلسائه المؤتمنين (خاصّة وأن أصدقاءه وجلساءه و أصفياءه السابقين، داخليا وخارجيا، هم في انحسار وتقلص دائمين)، في حين أن الرجل (أبا مازن) غدا يستمتع ويستأنس بجلسائه من ضبّاط الأمن الإسرائيليين الذين رفع مستوى التنسيق والتعاون معهم إلى منزلة القداسة، والتي غدت طقوس جلساتها تشبه جلسات "الحضرة الصوفيّة" و"الدروشة" التي تجيد "ميكانيزمياتها" آخر ما توصلت إليه الخبرة الاستشراقية الصهيونية، ودوائر الدراسات العربية في المؤسسة الأمنية والأكاديميّة الصهيونية!!

كما نعلم، فإن "إسرائيل" وهي منهمكة في البحث عن مخارج للأزمة المتفاقمة في قطاع غزة، خاصة بعد الإبداع الفلسطيني الملحّ والضاغط المتمثل في مسيرات العودة منذ 2 آذار/ مارس الماضي، وما يحدثه من آثار ومضاعفات وارتدادات؛ لجأت إلى تحريك "أدواتها" الدولية والإقليمية والمحلية.

وكان مركز الجهد في المقاربة الصهيونية هو سعي الوسطاء (الأمم المتحدّة، مصر، وغيرهما) عشية عيد الأضحى؛ إقناع أبي مازن (ومن ورائه فتح) بإنجاز مصالحة مع حماس كخطوة ضروريّة (وكممر لا غنى عنه من زاويتهم) من أجل رفع الحصار ومعالجة واقع غزة المتدهور.

ولكن سيخبرنا أرغمان، وهو بالمفهوم الاستخباراتي "الإسرائيلي" الوصيّ على عامله رئيس السلطة الفلسطينية، والمسؤول عن معالجته وتغطيته.. سيخبرنا بكلّ وضوح وصراحة بأنّ أبا مازن مسكون "بحزازة" تجاه غزة منذ أحداث 2007، وهذا ما يقف عقبة أمام قدرته على القيام بمصالحة مع حماس!!

إذن هذه هي العلّة، وهذا هو الموضوع الأساسي الذي يقف خلف شروط أبي مازن العرقوبيّة وغير العقلانيّة الخارجة عن منطق أي مقاربة "سياسيّة"؛ قبل أن تكون "وطنيّة"، وهو الأمر عينه الذي يفسّر لنا لغة أبي مازن المزدرية والمقززة والمشمئزّة من كل ما يذكّره بقطاع غزة، أو بحماس، والتي لا يتورّع عن إتحافنا بها في كلّ لقاء علني له!!

ومع الأسف، هناك نخبة إعلامية وسياسية وفتحاوية، كنا نحسبها "محترمة" وحضاريّة. فبعض هؤلاء مصنف على أنه من الشعراء والأدباء والكتّاب؛ ظهر صوتهم النابي والنافر، ولا أريد أن أقول اللاوطني، خاصة في التجاذب الأخير الذي أطلقه الإعلام الرسمي لسلطة رام الله مع أن هذه النخبة الرسمية. ومنذ 2007 لطالما أعلنت وجاهرت ورطنت في مناسبات عديدة، بأفكار استشراقية واستعلائية مقيتة، وبعضها منشور في أدبيات صحفية وبحثية، تدعو إلى التخلي عن قطاع غزة، واعتبار فلسطينية أهله من الدرجة الثالثة أو الرابعة، وأن هؤلاء فلسطينيون موصومون بالتخلف والتديّن والتمسّك بقيم قديمة أقل عصرية.

باعتقادنا أن هؤلاء هم صدى صوت "الحالة الحاقدة" التي لا ينفكّ أبو مازن، وهيئات فتح الرسمية من ورائه يكرّسون "دونيّة غزة"، ويلوحون ويهددون طيلة السنوات الماضية، بنيَّتهم الإقدام على إعلان قطاع غزة كإقليم متمرّد، وبالتالي تسويغ محاصرة غزة والضلوع والإمعان في حصاره، فضلا عن الصمت بل والتواطؤ مع حروب "إسرائيل" العدوانيّة الثلاث على القطاع؛ وانتظار سحق المقاومة فيه للمجيء على ظهر دبّابة إسرائيلية.

في الحقيقة، كنت منذ سنوات الثمانينات، وكلما وردت كلمة "حقد" أو "حقد أسود" في بيانات الفصائل، أنفر منها وأجدها مؤذية وتخدش الاجتماع السياسي الوطني، وأجدها مفهوما "غير حضاريّ"، فقد كان ذاك زمن المثل والانتصار للأفكار ونبذ الغرائزيّة، لكن مع حدوث الانهيارات في العالم العربي - ونحن جزء أصيل منه - أصبح الحقد والحسد والغيرة، ليست مجرّد أخلاقيّات مريضة فحسب، بل إنّ أي تحليل سياسيّ جادّ لتفسير الوقائع السياسيّة في العالم العربي سيسقط؛ ما لم يأخذ في الحسبان هذه الأمراض واعتبارها سياسات حاكمة، لمنطق قيادات وحركات سياسيّة مهترئة مع الأسف غدت تسمّى "دولة عميقة" و"ثورة مضادّة"!!

ألم تقل لنا رغد صدام حسين، وبعد سقوط بغداد بأيام، في مقابلتها الشهيرة على تلفزيون العربيّة، في عمّان في ربيع 2013، بأن "الحقد والحسد الموجودان عند قبيلة البيجات (عائلة والدها) يعادل الحقد والحسد في الكرة الأرضية". أعتقد أن ما قالته السيدة رغد صدام حسين يعكس مكنون كثرة كاثرة من ذراري عرب هذه الأيام، ولا أريد أن أقول بأنها تنطق بلسان كل عربي في هذا المجال. فلكلٍّ حاسدوه ومحسودوه!!

عرّف علماء السلوك الإسلامي الحسد بأنه "تمنّي زوال النّعمة عن الغير"، وليس مضاهاته ومكافأته والتنافس معه، فهذه الصفة يطلقون عليها "الغبطة". لكن الحاسد يريدك أن تنخسف وتنمحي وتغور وحسب! وهنا يتضّح لنا من عبارات أبي مازن العلنية حول "التمكين" و"تسليم غزة من الباب إلى المحراب" و"فوق الأرض وتحتها". ويريد مصادرة سلاح المقاومة وربّما تسليمه للعدوّ. فمقاتلو إسرائيل بالنسبة له تعد سخافة وغوغائيّة، أما عن فلتات لسانه الهوجاء: "لا تقولوا إخواننا في حماس" و"لا أريد أن أسمع أي معلومات ولا أي حجّة"، فضلا عن نسب الشرعيّة واحتكارها لنفسه عن الآخرين (الشعب)...

كل ذلك وغيره يعكس صفات الحاسد الحاقد، وليس الوطني الشريك أو المتنافس الذي لا يضيق بالآخرين.