ما كانت الحكومة اليمينية التي يتزعمها رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين
نتنياهو لتأمل في الحصول على هدية في الذكرى السنوية الخامسة والعشرين لاتفاقية
أوسلو أفضل من قرار إدارة دونالد ترامب إغلاق مكتب منظمة التحرير الفلسطينية في
واشنطن، والذي يعتبر بمثابة سفارة فلسطين لدى الولايات المتحدة.
وكان افتتاح المكتب في عام 1994، بعد عام واحد من توقيع اتفاقيات
أوسلو، تعبيراً ملموساً من قبل الولايات المتحدة وإسرائيل عن اعترافهما بمنظمة
التحرير كممثل شرعي للشعب الفلسطيني، بل كان فوق ذلك يمثل اعترافاً من قبل
الولايات المتحدة بأن من حق الفلسطينيين أن يكون لهم من يمثلهم وأن تطلعاتهم
الكلية ينبغي أن تؤخذ بالحسبان.
يحاول ترامب من خلال إغلاق البعثة إعادة العجلة خمسة وعشرين عاماً إلى
الخلف. فما من شك في أن هذه الخطوة تقوض الأسس ذاتها التي قامت عليها اتفاقيات
أوسلو. فماذا يبقى للاتفاقية من معنى إذا كانت الولايات المتحدة لا ترى واحداً من
الشركاء فيها – أي منظمة التحرير الفلسطينية – كياناً مستقلاً بما فيه الكفاية
بحيث يصنع قراراته بنفسه دون أن يخشى على نفسه من معاقبة "الأخ الأكبر"
القابع في البيت الأبيض؟
رد فعل فاتر
كان ينبغي أن نرى نتنياهو وحكومته اليمينية يرقصون على السطح. فمنذ
اليوم الذي أبرمت فيه صفقة أوسلو وهي تتعرض لهجوم شديد من قبل اليمين في إسرائيل.
بل لقد تم وصف الاتفاقيات بأنها عمل خياني ضد الصهيونية وضد دولة إسرائيل وضد
التاريخ اليهودي ككل. ولا أدل على ذلك من أن ييغال أمير، الذي اغتال رئيس الوزراء
الإسرائيلي إسحاق رابين في عام 1995، بين أنه إنما أطلق النار "من أجل وقف
عملية أوسلو وإنقاذ البلاد".
تشكل انطباع لدى اليمين الإسرائيلي بأن أوسلو هي التي تسببت في اندلاع
الانتفاضة الثانية وقتل ما يزيد على ألف إسرائيلي (وثلاثة آلاف فلسطيني، ولكن
الفلسطينيين في نظر هؤلاء لا يدخلون في الحسبان). ولطالما كان شعار "فلنقدم
مجرمي أوسلو إلى العدالة" شائعاً في أوساط دوائر المستوطنين واليمينيين.
إلا أن رد الفعل على الخطوة الأمريكية الأخيرة بدا باهتاً جداً، وكل
ما صدر عن نتنياهو هو نعتها بالقرار الصحيح. بالمقابل، كان هو ووزراؤه قد أشادوا
كثيراً بقرار ترامب الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل وبقراره نقل السفارة الأمريكية
إليها، ناعتين الخطوة بأنها قرار تاريخي. ورغم أن إغلاق البعثة الفلسطينية في
واشنطن قد تكون له عواقب واسعة النطاق إلا أنه حظي بقدر ضئيل جداً من الاهتمام.
بشكل عام، يبدو أن إدارة ترامب وحكومة نتنياهو تنطلقان عبر مسارات
منفصلة في ما يتعلق بالقضية الفلسطينية. قد تكون للطرفين نفس الأهداف – تقويض شرعية
منظمة التحرير الفلسطينية والفلسطينيين كشعب له حق تقرير المصير وكذلك التخلص من
حل الدولتين – إلا أنهما يتحركان بمعدلات متباينة من السرعة، فبينما تندفع إدارة
ترامب بقوة تتلكأ إسرائيل وينقصها الحماس.
وقد تجلت هذه الفجوة في محادثات الهدنة بين إسرائيل وحماس الشهر
الماضي، حيث بدت الولايات المتحدة أكثر حرصاً من إسرائيل على التوصل إلى تسوية،
فدفعت بكل من مصر وقطر في ذلك الاتجاه.
ليس من الوارد أن يكون مصير مليونين من
الفلسطينيين المحاصرين في غزة، ولا حتى مصير الإسرائيليين الذين يعيشون قريباً من السياج
الذي يفصلهم عن قطاع غزة، أمراً قريباً من قلب ترامب.
بل الأغلب أنه يرى في ذلك فرصة سانحة لإضعاف منظمة التحرير والسلطة
الفلسطينية أكثر فأكثر وللحيلولة قدر الإمكان دون إمكانية قيام دولة فلسطينية
مستقلة توحد ما بين الضفة الغربية وقطاع غزة.
هل أخذت إسرائيل على حين غرة؟
كان هذا التباين في المسار بين الولايات المتحدة وإسرائيل أكثر وضوحاً
في ما يتعلق بوكالة غوث وتشغيل اللاجئين (الأونروا)، وهي الوكالة الدولية التابعة
للأمم المتحدة والتي تعنى بشؤون اللاجئين الفلسطينيين.
لطالما شنت حكومة نتنياهو، وكذلك الحكومات الإسرائيلية التي سبقتها،
حملة ضد الأونروا، بزعم أن مدارسها تعلم الطلاب كراهية إسرائيل وأن مرافقها توفر
ملاذاً آمناً لإرهابيي حركة حماس وأن وجودها ذاته يحول دون التوصل إلى حل لمشكلة
اللاجئين الفلسطينيين. ولكن يبدو أن القرار الأمريكي سحب كافة الدعم المقدم
للأونروا قد أخذ إسرائيل على حين غرة.
لقد زعم ترامب مراراً وتكراراً أنه من خلال نقل السفارة الأمريكية
فإنه يلغي وجود القدس على طاولة المفاوضات. ولربما يظن ترامب أنه من خلال قطع كافة
المساعدات التي تقدم للأونروا والإصرار على وضع قيود صارمة على تعريف من هو
اللاجئ، فإنه أيضاً يلغي وجود هذه القضية على طاولة المفاوضات. ولكن يبدو أن ترامب
بإغلاقه مكتب البعثة الفلسطينية في واشنطن يلغي وجود الطاولة نفسها.
منذ أن دخل نتنياهو السياسة الإسرائيلية قبل عقود وهو يعتبر محاربة
أوسلو قضية حياته والهدف منها، ولذلك فقد ركز كتابه "مكان تحت الشمس"
الذي نشر في عام 1995 على ما اعتبره خطيئة نتنياهو القاتلة والمتمثلة في التفاوض
مع الفلسطينيين، كما تزعم مسيرات احتجاجية ضد عملية أوسلو منذ البداية وحتى لحظة
اغتيال رابين.
كان إسقاط أوسلو شعاره الرئيس عندما خاض الانتخابات ضد شمعون بيريز في
عام 1996، والآن حين جاء رئيس أمريكي ليحقق له أحلامه، فإن كل ما يقوله نتنياهو هو أن
ذلك كان قراراً "صحيحا". ثمة ما يبعث على الريبة.
إن التفسير الأكثر إقناعاً هو أن إسرائيل تعودت على كل ما يقوم به
ترامب لأجلها، ولذلك بات من الصعب إثارتها. ولكن بالمقابل، قد يكون نتنياهو
منهمكاً فيما وراء الكواليس – أو على الأقل مشاركاً إلى حد كبير – في كل التحركات
التي تصدر عن ترامب، ولكنه يفضل ألا يتحمل المسؤولية عنها.
يقول مسؤول كبير سابق في الإدارة الإسرائيلية: "لقد كان نتنياهو
دوماً تواقاً لمسح أوسلو من الوجود. والآن ها هو ترامب يسحب البساط من تحت جميع
القواعد التي قامت عليها أوسلو، إلا أن نتنياهو من الذكاء بحيث لا يحتفل، لأنه
يخشى فيما لو كانت هناك ردود أفعال سلبية من أن يحمل المسؤولية".
الشك في ترامب
وهذا يؤدي إلى تفسير محتمل آخر، وهو أن المؤسسة العسكرية والأمنية
الإسرائيلية تشك في تحركات ترامب. وخذ على سبيل المثال ما صرح به الجنرال المتقاعد
آموس جلعاد، الرئيس السابق لمكتب الشؤون السياسية العسكرية في وزارة الدفاع، والذي
شارك في ما لا يحصى من المقابلات بعد قرار الولايات المتحدة وقف التمويل لوكالة غوث
اللاجئين (الأونروا)، معلناً أنه على الرغم من أن الوكالة "حقيرة" فإن زعزعتها "يمكن أن تضر بأمننا".
وذلك أن إغلاق مكتب منظمة التحرير في واشنطن وترافق ذلك مع وقف
التمويل عن الأونروا وعن السلطة الفلسطينية، يهدد وجود السلطة الفلسطينية ذاتها.
والأهم من ذلك، من وجهة النظر الإسرائيلية، أن ذلك يهدد تعاون السلطة الأمني مع
إسرائيل. ينزع اليمين الإسرائيلي نحو التأكيد على حاجة رئيس السلطة الفلسطينية
محمود عباس إلى هذا التعاون بينما يجلس على "الحراب الإسرائيلية".
مع أن جميع الكيانات الأمنية والمخابراتية الإسرائيلية تقريباً متفقة
على أن هذا التعاون حيوي بالنسبة لإسرائيل، فقد سمح التعاون الأمني للجيش الإسرائيلي بأن يعمل دون إعاقة تذكر في جميع
المناطق الفلسطينية، بما في ذلك المنطقة "أ" والتي كان من المفروض بناء
على اتفاقيات أوسلو أن تكون محظورة تماماً على إسرائيل. كما تستفيد إسرائيل من
المعلومات التي تحصل عليها من خلال التعاون مع السلطة الفلسطينية.
لا غرابة إذن أن
يؤرق الجيش الإسرائيلي و إدارته "المدنية" مجرد التفكير في احتمال عودة
إسرائيل لإدارة الحياة اليومية لما يقرب من مليونين ونصف المليون فلسطيني داخل
الضفة الغربية. بمعنى آخر، ليست لدى القيادات العسكرية والأمنية الإسرائيلية أدنى
شهية في العودة إلى عهد ما قبل أوسلو.
حتى الآن، لم نشهد رد فعل ارتجاعي على التحركات التي يتخذها ترامب ضد
الفلسطينيين. ولكن فيما لو انتهى التعاون مع السلطة الفلسطينية واضطر نتنياهو إلى
إرسال الجيش الإسرائيلي مرة أخرى إلى قلب المدن الفلسطينية فقد يناله بسبب ذلك أذى
سياسي. من خلال تجنب تحمل المسؤولية عن تحركات ترامب، فإنه يسعى نتنياهو إلى تجنب
احتمال التعرض للوم.
تفاهم مستمر
ومع ذلك ربما كان هناك تفسير آخر لتردد إسرائيل في إظهار البهجة تجاه ما
يقوم به ترامب. من المحتمل أن تكون الرؤية الإسرائيلية مختلفة عن رؤية البيت
الأبيض. فما يرى ترامب أنه مسألة تتعلق بالكرامة الشخصية – وانتقام من الفلسطينيين
الذين تجرأوا على الشك في خطته في الشرق الأوسط والتي تعرف باسم "صفقة
القرن" – ربما لا ينظر إليه بنفس الطريقة في تل أبيب وفي القدس. لعل الذين
يعيشون هنا يفهمون أنه حتى لو أوقف ترامب والدول المانحة الأخرى كل المساعدات التي
تقدم إلى السلطة الفلسطينية، فلن يتلاشى النضال الفلسطيني.
ربما كان معظم الإسرائيليين يدركون أنه يستحيل العودة خمسة وعشرين أو
حتى أربعين عاماً إلى الوراء، إلى أيام غولدا مائير التي زعمت أنه "لا يوجد
شعب فلسطيني"، أو إلى أيام روابط القرى التي أنشأتها إسرائيل وروجت لها في
الضفة الغربية في مطلع ثمانينيات القرن الماضي كوسيلة لمواجهة منظمة التحرير
الفلسطينية.
بهذا المعنى، ورغم جميع إخفاقاتها، فقد أوجدت عملية أوسلو واقعاً
جديداً وتفاهماً لا يمكن ببساطة شطبه نزولاً عند رغبة الرئيس الأمريكي أياً كان ذلك
الرئيس. لا ريب أنه ليس عيد ميلاد سعيدا بالنسبة لعملية أوسلو، ولكن لم يحن الوقت
لجنازتها بعد، على الأغلب.