فقط عندما بدا أن العلاقات التركية- الأمريكية تتجه إلى التحسن نوعا ما، لا سيما في الملفات الأكثر تعقيدا، تدهورت بشكل سريع دون سابق إنذار.
ملف القس أندرو روبنسون كان محور الأزمة الأخيرة التي اندلعت بين واشنطن وأنقرة. ومع أن السلطات القضائية التركية كانت قد نقلت القس من مكان احتجازه الى الإقامة الجبرية، حيث كان من المفترض أن تلقى هذه الخطوة صدى إيجابيا، لكونها تعبّر عن حصول تقدم في المباحثات المتعلّقة بمصير القس، إلا أن نائب الرئيس الأمريكي كان له موقف آخر، أدى إلى إشعال فتيل الأزمة.
السبب الأساسي للأزمة المستحدثة، يعود بالدرجة الأولى إلى توجهات نائب الرئيس الأمريكية الإيديولوجية، وكذلك إلى حسابات ترامب السياسية. بمعنى آخر، هناك انتخابات نصفية على الأبواب في الولايات المتّحدة الأمريكية، وشريحة واسعة من الناخبين المستهدفين هم من الإنجيليين، وهذا ما يفسر على الأرجح الاهتمام منقطع النظير للإدارة الأمريكية بأندرو برانسون بالتحديد، لا سيما مع وجود محتجزين أمريكيين لدى دول أخرى.
المسارعة إلى فرض عقوبات على
تركيا في الوقت الذي كان فيه الملف يشهد تطورات إيجابية، لا يترك المجال لكثير من التفسيرات.
وبالرغم من أن العقوبات على وزيرين تركيين كانت رمزية إلى حد ما، نظرا لمعرفة السلطات الأمريكية بعدم وجود أصول للوزيرين في الولايات المتّحدة، إلا أنها تركت تأثيرا سلبيا على قيمة
الليرة التركية.
أمام هذه الوضع، لم يكن متاحا للإدارة التركية أن تتراجع بدورها أمام العقوبات الأمريكية، لأن ذلك سيظهرها بمظهر ضعيف أمام الداخل التركي، وأمام العالم، ولذلك أصر وزير الخارجية آنذاك على أن العقوبات الامريكية لن تمر من دون رد.
تقليديا، عندما تتعرض السلطات التركية لإجراءات من هذا النوع، تتخذ بدورها إجراءات مضادة للرد على نفس المستوى. تسمح مثل هذه الخطوة بخلق نوع من التوازن يفضي الى التفاوض من الموقع ذاته.
قبل الأزمة الأخيرة، حصلت أزمة بين أنقرة وواشنطن جرى إثرها إتخاذ إجراءات تتعلق بعرقلة إصدار تأشيرات الفيزا إلى المواطنين الأتراك، وقامت أنقرة باتخاذ إجراءات مماثلة، وفي نهاية المطاف، تم حل الموضوع دون تقديم تنازلات.
السلطات التركية قامت بالفعل باتخاذ إجراءات مضادة تمثلت في عقوبات مماثلة على وزير العدل والداخلية الأمريكيين.
وعلى الرغم من أن هذه العقوبات رمزية أيضا، نظرا لعدم امتلاك الوزيرين المذكورين على الأرجح أي أصول مالية في تركيا، إلا أن الأهم هو الرسالة التي حملها هذا الإعلان.
المسؤولون الأتراك أرادوا القول إنه لا بد من التعامل بندية، وعلى قدم المساواة مع بعضنا البعض إذا كنا حلفاء، وهذا ما ننتظره من الولايات المتّحدة، لأن التهديدات والعقوبات لا يمكن لها أن تؤدي إلى النتيجة الإيجابية المتوخاة.
بهذا المعنى، فإن هذه الخطوة تعد مدخلا للاحتواء وليس للتصعيد، بدليل خطاب الرئيس التركي الأخير، الذي أبقى فيه الباب مفتوحا على تفاهمات بين الطرفين.
في هذا السياق، يبدو واضحا أن قنوات الاتصال الخاصة بوزارتي الخارجية والدفاع إلى جانب هيئة الأركان لا تزال قامة لدى الطرفين، لكن أكثر ما يلفت الانتباه في هذا الصدد، أن موقف هاتين الوزارتين في الولايات المتّحدة متمايز إلى حد ما عن موقف الرئيس مؤخرا.
وزير الخارجية الأمريكي كان قد أعلن بأنه لم يكن على اطلاع مسبق على موقف الرئيس أو نائبه بخصوص العقوبات، ومثله كذلك تملص وزير الدفاع الأمريكي من هذا الموقف.
تسمح القنوات المفتوحة بين الطرفين بتخفيف حدة الأزمة في سياق البحث عن حلول.
سيحاول الطرفان على الأرجح احتواء الموقف وإعادة إحياء صفقة محتملة كان قد تمّ الحديث عنها خلال الأيام القليلة الماضية، في إطار حل الأزمة المتعلقة بالقس الأمريكي، لكن من غير المعروف إلى أي حد سيكون ذلك مناسبا بالنسبة للحسابات السياسية للرئيس الأمريكي، وهل سيكفيه ما جرى حتى الآن في عملية الاستثمار السياسي داخل واشنطن أم أنه سيسعى إلى تصعيد أكبر؟
هناك عقوبات الآن تتعلق بإيقاف تسليم مقاتلات (أف-35) المتعددة المهام إلى تركيا لمدة 90 يوما على الأقل إلى أن يسلم البنتاغون تقريرا شاملا عن تداعيات إخراج أنقرة من مشروع إنتاج المقاتلة.
هناك أيضا عقوبات ذات طابع مالي تتعلق بالقروض الدولية، لكن المسألة الأخرى التي قد تعرقل احتواء الأزمة تكمن في تنامي الاتجاه المعادي لتركيا لدى شريحة من المشرعين الأمريكيين.
هؤلاء بالإضافة إلى بعض مجموعات الضغط والباحثين والكتّاب، يطالبون بأن يتم توسيع نطاق العقوبات على أنقرة، لتشمل مسائل وملفات أخرى، تتجاوز موضوع
القس الأمريكي، إلى أي مدى سيتم السماح لمثل هؤلاء بالتمادي؟ هذا الأمر سيعتمد أيضا على موقف الرئيس الأمريكي.