اندلعت مساء يوم الخميس الماضي، معركة كلامية بين الولايات المتّحدة الأمريكية وتركيا، الحليفين المفترضين في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، وذلك على خلفية محاكمة السلطات التركية للقس الأمريكي أندرو برونسون، بتهم تتعلق بالتجسس ودعم الإرهاب.
وبالرغم من أن السلطات القضائية كانت قد نقلت القس المذكور من السجن لتضعه قيد الإقامة الجبرية في منزله في إزمير، فإن الخطوة لم تكن كافية بنظر المسؤولين الأمريكيين، الذين تطلعوا إلى إفراج فوري عن القس المسجون منذ حوالي عامين.
نائب الرئيس الأمريكي مايك بنس، والمعروف بتوجهاته الدينية المتطرفة، كان قد افتتح المعركة الكلامية برسالة تهديد لتركيا، عندما قال: "أحمل رسالة إلى الرئيس التركي والحكومة التركية بالنيابة عن رئيس الولايات المتّحدة. أطلقوا سراح القس أندرو برونسون، أو استعدوا لمواجهة التداعيات.... الولايات المتّحدة ستفرض عقوبات كبيرة على
تركيا إلى أن يتم إطلاق سراحه".
وتولّى الرد على التهديدات الأمريكية عن الجانب التركي كل من وزير الخارجية مولود تشاووش أوغلو والناطق باسم رئاسة الجمهورية إبراهيم كالين.
وأوضح المسؤولان بشكل قاطع أن تركيا لا يمكن لها أن تقبل التهديد من أي أحد كان، وأن المسألة تخضع في نهاية المطاف لحكم القانون.
لكن الرد الأهم باعتقادي هو ذاك الذي أدلى به رئيس الجمهورية رجب طيب
أردوغان خلال لقائه بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين على هامش قمّة مجموعة دول "البريكس" المنعقدة في جوهانسبرغ في جنوب أفريقيا.
وفي هذا اللقاء، قال الرئيس التركي دون أن يشير إلى أية أسماء "إنّ التضامن القائم بين تركيا وروسيا، يغيظ بعض الجهات الدولية"، مشيدا في الوقت ذاته بالإنجاز الذي تحقق في فترة قصيرة، والصعود الجاد للغاية في العلاقات الثنائية بين البلدين في المجالات السياسية والعسكرية والاقتصادية والثقافية والتجارية.
ولفت إلى قرب حصول تطورات جيدة في المجال السياحي، حيث من المنتظر أن يزور تركيا خلال العام الحالي 6 ملايين سائح روسي.
من الناحية الواقعية، لا يمكن لتركيا التخلي عن علاقاتها المهمة والاستراتيجية مع الولايات المتّحدة الأمريكية، لكن لا يمكن لأنقرة في المقابل أن تقبل بأن تكون تحت التهديد الدائم من الحليف المفترض، فضلا عن أن تكون مطالبة دوما بتقديم التنازلات دون الحصول على مقابل يأخذ بعين الاعتبار مصالحها.
يجب الاعتراف أيضا بأن أنقرة لا تمتلك ما يخوّلها أن تواجه به أي عقوبات أمريكية محتملة بفعالية، لكن ما يمكن لتركيا فعله هو أن تتّجه أكثر فأكثر باتجاه
روسيا.
بمعنى آخر، فإن العلاقات الأمريكية-التركية المسمومة، والضغوط والتهديدات المتتالية لأنقرة سترمي الأخيرة في أحضان موسكو، التي تسعى إلى أن تربط تركيا بها بشكل متزايد من خلال شبكة من المصالح السياسية والاقتصادية والعسكرية.
مثل هذا الاتجاه -إن حصل- سيجعل تركيا في موقف صعب مستقبلا، لأنه سيضع مصالحها تحت رحمة روسيا.
لكن في المقابل، سيؤذي ذلك من دون شك، إلى زعزعة موقع ونفوذ واشنطن في منطقة الشرق الأوسط، وسيخلخل مثل هذا التقارب العلاقة مع أوروبا، ويقوّض من دور حلف شمال الأطلسي، وكلها أهداف محتملة لأجندة صانع القرار الروسي أثناء تقاربه مع تركيا.
السياسة الأمريكية الخاطئة وطريقة التعاطي السلبية مع الجانب التركي سيكون لها تداعيات سلبية أيضا على الجهود المبذولة لمواجهة التمدد الإيراني في المنطقة.
فمن غير المنطقي افتراض أن واشنطن ستكون قادرة على تحقيق هذا الأمر في ظل علاقات سيئة مع أنقرة، ومجلس تعاون خليجي مفكك، وعلاقة مضطربة مع الاتحاد الأوروبي.
ليس ثمة ما يشير إلى أن المسؤولين الأمريكيين قد أخذوا مثل هذه المعطيات بعين الاعتبار، عندما قاموا بتهديد تركيا بفرض عقوبات عليها، لكن ثمّة حقيقة واحدة في هذه المعادلة، أنّهم ما لم يفعلوا ذلك، فإنهم سيغامرون من دون شك في رمي تركيا باتجاه روسيا كلّيا.
وأشك كثيرا أن واشنطن ستكون قادرة على حماية مصالحها إذا ما تحولت تركيا إلى إيران أخرى، بسبب السياسات الأمريكية غير المتوازنة وغير المسؤولة.