استراتيجيات الحروب
والغزو أصناف وأنواع وأطباق. لكلّ عصر «نكهته»، و«تذواقه» وبروتوكولاته..
وربابنته، فبات بعضها من «وصفات» تُحفظ في كتب «طبيخ» المعارك، والمجازر وخلط
الدماء، وفي مدوّنات الأكاديميات الحربية، وخرائطها، وتكتيكاتها، ومعارفها،
متنوّعة (حتى في الوصفة الواحدة)، ترث الواحدة الأخرى، وتضيف إليها من «توابل»
الموت، والقتل، ما يثير الشهايا، وما يدعو إلى الاحتذاء، بغية تحقيق انتصارات على
شعوب، وأمصار، وأعداء يصعب التفريق بين أهل البلد الواحد وغزوة أنظمته له، أو
خوارج أو الطامعين فيه، أو الطامحين إلى المجد، والهيمنة، (الاستعمار)،
والاستبداد.
فمن «قبل» عُرف اليونان بالحيلة ونتذكّر «حصان طروادة»
(ومعه أغاممنون، وقوّاده، ومسالك معاركهم)، والإسكندر، و«عبقريّته» في اجتراح
تحطيم دفاعات العدوّ، وهنيبعل «ذئب» الحروب ورومل «ثعلب الصحراء»، والمغول
وغريزة «البطش»، ولينين وبراعته في تحويل الثورات انقلابات وحروبا أهلية، وستالين
في أسلوب تهجيره «الديموغرافي» بالملايين في الاتحاد السوفياتي، وهتلر، وجنونه
العرقي، وأقرانه، وتصنيفاته العرقية. كأنما هؤلاء وسواهم «آباء» المراحل
القادمة. وَسَمُوا القرون الماضية، ووصموا القرن العشرين والحادي
والعشرين بطبائعهم، وهواجسهم، سواء في مواجهة الخارج أو الداخل.
وإذا كانت الصهيونية وارثة «اللعبة الإلهية» التوراتية
قد استفادت من كل هذه القواعد، وغزت فلسطين، بمنهجية «القُدامى» ووسائل السّحق،
والتهجير، وتدمير المنازل، واحتلال الأرض والحجر وتهويدها، مختزلة تركة الطغاة في
القرن العشرين، فإنَّ فرانكو، قبلها بقليل، استمدَّ لعبته، من «خلطة» التدمير،
الممنهج وإحراق ممتلكات «المعارضة» (في الحرب الإسبانية الأهلية) محافظا على كنز
التماثل بمن قبل، وواهبا إبداعاته مَنْ بعده، فإنّنا اليوم في حروب القرن الحادي
والعشرين، نجد ذاتنا، من خلال بعض الأنظمة، والأحزاب والجماعات، كأنّما اختلطت كل
كيميائيات الماضي، في أطباق الحاضر، في منطق الحروب، ضد الشعوب.
وإذا ركّزنا قليلا، من (باب التصنيف) على النظام السوري
مثلا، كنموذج يختزن كلّ «أفاوية» الحروب وتوابعها، نجد أنّه، والنظام الروسي،
وخصوصا الإيراني، من النماذج التي تمثّل مسارات المواجهات الداخلية والخارجية في
مطالع هذا القرن الطالع حديثا. وإذا أردنا أن نحصر مكوّنات «الأسلوب الأسدي» في
مواجهة ثورة الشعب السوري، (باستيحائه إرث الوالد الأسدي، والطغاة العرب،
والصهيونية، والإيرانية)، نتمكن من استخلاص طرق متبلورة يمكن بدورها أن تكون
«أمثلة» ودروسا.. لكلّ ما ينتظرنا في هذا القرن الذي بات حتى الآن ميدانا خصبا،
لكلّ مختبرات القوميات الطائفيّة، واللغويّة، واللونيّة، والعنصريّة؛ إنه عصر
استعادة الظواهر السلبيّة الكلامية والظلامية التي حاولت «الحداثة» تجاوزها:
أعودةٌ إلى البربريّة العارية؟ نعم! أعودةٌ إلى «المغوليّة» المستحدثة؟ نعم!
أعودةٌ إلى التيمورلنكيّة المتجدّدة؟ نعم!
الاستعادة
وإذا ما حاولنا استعادة هذه الحرب ضدّ الثورة الشعبية
السورية، بمؤازرة إيران وروسيا ومرتزقة أفغانستان ولبنان (حزب الله)، فيمكن تبيان
وصفة الوصَفَات، واستراتيجيّة الاستراتيجيّات في مسارات هذه الانتفاضة. كأنما هنا
«غروزني» (الشيشان)، محفوظة، وهناك غزوة فلسطين والصهيونية والجيش الإسرائيلي،
وهناك، حروب لبنان «المذهبية»، من دون أن ننسى محطات مذهلة في جماليات الإبادة
الجماعية، والترهيب، وتغيير هويّات الأمم والشعوب؛ عند ستالين، وهتلر، وماو وبول
بوت.
من خلال هذه النظرة المتمعّنة في ماورائيّات القتل،
وبوادره، وتمظهراته، وفنونه، ونتائجه الميلودرامية والتراجيدية، يتبلور لدينا من
مشهديات الأمور، وتطوّراتها، منطق «معقلن»، في الحرب والإعلام، وتقديم الوقائع،
بطريقة أقرب إلى هلوسة الدم، وهذيانات المخيّلة، كنموذج ناصع في اشتداد سواده، وعمق جحيمه.
كأنما هنا، وفي كل خطوة استرجاع حفيظة في مصانع التدمير،
وذخيرة في تدرجات الحروب، نستعظمها ونستعظم هولها، استعظامنا سبلها، وعيّناتها؛ من
ألفبائها إلى علوّها في دحرجة المصائر، وخلخلة الطباع، وفوضى كأنها من بنات
الوضوح، أو خراب من صفاءات النصر، والإخضاع والمَحْق والسّحْق.
مسارُه
فالنظام السوري، الذي تظنّه استعاد «سوريا من الثورات»، بأصقاعها وأراضيها، ورفرف أعلامه فوق المدن، والذبائح الطازجة، يعمّق منطقه، ليخضع
لدوراته ومراحله؛ فالمرحلة العسكرية تتمثّل في المبادرات الأولى بمحاصرة المدن، ثم
تدميرها تدميرا منهجيا، بكل أنواع القصف الجوي والبري والبحري. لتدمير البنى
التحتية الحيوية للمدنيين (أسواق، مراكز توزيع المياه، والكهرباء، والأفران،
والمستشفيات والمدارس، والملاجئ والجسور، والمسالك) لإرغام السكان على الهروب (لعبة التهجير أجادها مع النظام حزب الله والحرس الثوري الإيراني، تمثّلا بإسرائيل).
مرحلة مهمّة أولى (وربما أكثر) يليها التطهير العِرقي
(نتذكّر رواندا، وحروب صربيا، وغروزني) والإبادة المذهبية، والسياسية
والإيديولوجية، وممارستهم النهب ومصادرة ممتلكات «الفارّين» والمهجّرين
والمَنفيّين إلى الخارج ليصير استبدالهم بعدها بهويّات من سكان «موالين»، للسلطة،
ومن الخارج أيضا (الإيرانيون في سوريا) توزّع عليهم بسخاء المقامرين بالموت،
خيرات المنهوبات والمسروقات، واستملاك العقارات والأراضي، تحت يافطات أن لا عودة
لهؤلاء إلى بلدهم وأراضيهم: فإذا عجزْتَ عن هزم الناس، فما عليك إلا أن تغيّرهم،
وإذا كان عليك إنقاذ النظام، فما عليك سوى تغيير الشعب.
الإنقاذ
ثمَّ، وبخيوط مترابطة، ومن خلال 400 ألف قتيل، ينقذ
الأسد نظامه ويخرج «منتصرا»، مستخدما «حربه» المزعومة على الإرهاب (داعش،
والنصرة)، ليستعيد ثلثي المناطق التي خسرها، التي تشكّل بمنطقه «سوريا المفيدة»،
وها هو يتلاعب ويناور الديبلوماسية العالمية والقوى المختلفة ليبني سوريا الجديدة
بفضل نفي معارضيه أو قتلهم، أو تهجيرهم بلا رجعة. سوريا الجديدة بإنسان جديد:
مخلوقات مذهبية من «ذرّية» النظام و «عرقه» ولكن من أغراضه، وأشيائه: إنسان آخر
يحل محلّ الإنسان القديم، وهذا بتصاعد جنوني متواصل: فمنذ عام 2001 ارتفع عدد
المهجّرين إلى الخارج إلى ستّة ملايين منها 3 ملايين في تركيا، والثلاثة الأخرى في
الأردن ولبنان، وبضعة مئات الألوف في بلاد الله غير الواسعة: والمميّز في غلوّ
النظام بوحشيّته شرعنة استخدام الأسلحة الكيميائية والبراميل المتفجّرة، والغازات
السامّة، والأسلحة المحرّمة دوليا، كل شيء جعله مباحا. قد تستنكره بعض الأصوات
في مسار الحروب، لكنها لا تلبث أن تتبخر.
القاعدة الأثيريّة
والقاعدة الأثيريّة التي ورثها النظام عمّن قبله (والده
حافظ) ترسيخا لاستراتجيّته، تأكيده تصنيف المهاجرين في قبول عوداتهم؛ لا عودة
مأمونة لهم أولا، (برغم تأكيدات الاتفاق الأخير في خطّة عودة هؤلاء بين الروس
والأمريكان)، فالأسد لم يهجّر الملايين من شعبه ليعيدهم. هذه حقيقة «دامغة»، وإذا
كان له أن يعيد أجزاء مجزّأة منهم، فليستخدم شبابهم وأطفالهم، في تكوين جيشه
الجديد لحماية سوريا الجديدة: وتغيّر النّسب الديموغرافية والسياسية فيها: يختار
«سكانه» على هويّاتهم، يؤازره في ذلك حزب الله الذي جعل نفسه «راعيا» لعودة بعض
المنفيين (ذوي أصول ونوازع مذهبية)، بعدما تمَّ تهجيرهم لاستكمال لعبة التطهير
«المذهبي». (لعبة إسرائيل الكبرى). أو لعبة رفع جدران جديدة في سوريا، كنماذج
تصدير للعالم العربي، أو كدروس لكل مَن يتماثلون بالأسد وخامنئي في القرن الحادي
والعشرين.
والغد؟
من خلال ما أوردنا، يمكن أن نستخلص أنَّ الأسد وحلفاءه
الإيرانيين (قد يتحوّلون إلى أعداء الغد، وقد ننتظر حروبا بينهم)، والروس (أولياء
سوريا الأسد)، يظنّون أنَّ في تماديهم في منطق العنف والتمييز الفئوي، والوحشية،
قادرون على فرض «سلمهم»، واستتباب غلبَتهم. لكن حتى الواقع المجزّأ في سوريا لا
يقول ذلك، ولا أمثولات التاريخ.
على هذا، نعتقد أنّه لن يكون من سلم أوّلا، ولا مخرج
سياسيا للحرب؛ ولا هدوء يمنح الأسد وخلانه وأبواقه «الجدد» ثقة بانتصارهم:
فالإشارات واضحة وهي معبِّرة: فالمعارك ما زالت مستمرة على جبهات عديدة: منها
النظام (بمعيّة روسيا)، المتمرّدون، والناجون، والهاربون من المعارضة، وكذلك قوات
«داعش» الذي يلعب لعبة تغيير المواقع بحسب الظروف، في جنوبه وادي الفرات.
وهناك الجبهة التركية، على أرض سوريا، ضد بعض الفصائل
التركية (حزب الاتحاد الديموقراطي)، لخلق منطقة مستقلة في وادي الفرات.
... وإسرائيل جولان
ومن ناحية أخرى تتصاعد ضربات القوات الإسرائيلية ضد
«الموجودات» الإيرانية، وتجمعاتها وثكناتها، في محاولة ترحيل الإيرانيين، لتحلّ
محلّهم قوات الأسد على تخوم الجولان. ولا نهمل المفاوضات القائمة حاليا بين بشار
ونتنياهو، لاستعادة تطبيق اتفاق 1973 الذي استمرّ حتى عام 2011، في ما سمّي «فكّ
الاشتباك بين إسرائيل وسوريا» أي عود على بدء: أن يتولّى النظام السوري حماية جيش
الاحتلال الصهيوني في الجولان المحتل من كل محاولة توجّه ضدّه، وإعادة ناطور
الجولان الأسدي إلى وظيفته المشهود لها بالحفاظ على الاحتلال الصهيوني في الجولان
برموش العين. وتسألون لماذا صرّح نتنياهو عندما كان نظام الأسد على شفير السقوط
«سقوط النظام السوري كارثة على إسرائيل!».
إلى ذلك، يقول النظام «المنتصر» (أربعة احتلالات لبلده
تظلّل غاره ومجده)، للبلدان التي استقبلت المهاجرين إنّ عليها أن تفهم جيدا أنه
لا عودة للمهاجرين (وجلّهم من السُنّة العرب) إلى بلادهم ما دام الحكم العلوي
قائما.
وهكذا باتت سوريا الأسد – بوتين – خامنئي – إسرائيل وصفة
أو عيّنة تُستخدم كمختبر لأزمات القرن الحادي والعشرين الراهنة والمقبلة، في
أبعادها المزدوجة: حروب بلا نهاية، وأزمات بلا حل!
وتقولون إن الحرب «قد انتهت في سوريا»؟.
عن صحيفة المستقبل اللبنانية