في إحصاءات أخيرة، تبيّن أنّ 40 مليون إيراني «يحتاجون إلى مساعدة»، و«20 مليونا تحت خط الفقر»، أي نسبة 70 بالمئة من الشعب الإيراني في حال العوَز، والقلق، والخوف من المستقبل.
حجم كبير بالنسبة إلى بلد نفطي، ويتمتع بمقومات اجتماعية، واقتصادية،
تمَّ إضعافها، أو استلابها، أو مصادرتها أو نهبها. وهذا يقودنا بالمقابل إلى
احتكار طبقة من الحكام، وزبائن النظام، وخامنئي بالذات، وبالأخص الحرس الثوري، وكل
المقدرات المنتوجة، وجعلها «ملكيات» خاصة لهذه «الأقلية المُتسلطة»: تُقدّر ثروة
خامنئي بـ200 مليار دولار، وتقدّر مشاريع الحرس الثوري، ومردودها، بمئات
المليارات. إنها الثروة الوطنية والإنتاجية المُحتكرة أقصت وإلى حدّ كبير
الممثلين التاريخيين عن المشاركة في استثمارات الاقتصاد على مختلف صُعده. هذا
الاحتكار طمس قوى الإنتاج، والاستهلاك، الفردية والجماعية والشركات من أهل السلطة
وزبانية النظام.
يضاف إلى ذلك الآثار
العميقة التي خلّفتها حروب تصدير الثورة إلى العالم، وخصوصاً العالم الإسلامي
والعربي، لتحقيق «حلم» إيديولوجي فاشل يُرمز إليه بـ«الهلال الشيعي»، والذي تمثّل
حروباً مذهبية مدمّرة في عدّة بلدان إسلامية عربية كالعراق وسوريا ولبنان واليمن،
مما سجّل إهداراً لا مثيل له للمال العام، الموارد والميزانيات، والخسائر والتي
تُقدر أيضاً بمئات المليارات.
وكان الشعب الإيراني هو
الذي يدفع ثمن فساد النظام، وتدهور الاقتصاد، وتهاوي العملة الوطنية بنسبة 120
بالمئة في أقل من عام.
كان الدولار يساوي في
بداية العام الحالي 42 ألف ريال وتجاوز في حزيران 90 ألفاً..
ثورة 2009
والكل يعرف أن ثورة 2009
كانت سياسية رداً على تزوير الانتخابات الرئاسية لصالح أحمدي نجاد، ولهذا لم
يكن الوضع الاقتصادي مؤشراً لتحركات، وإذا كانت ثورة 2009 قد قُمعت بالنار والحديد،
وسجن بعض مؤسسي الثورة الإيرانية ككروبي وموسوي، واضطهاد منتظري، فإن وضع البلاد
اتخذ بعد ذلك منحىً جديداً: تصدير الإيديولوجيا المذهبية بالحروب والدمار والخراب،
حتى بدأت معالم نتائج هذا الإهدار لموارد البلاد وأسسها الاقتصادية قبل عدة سنوات.
وهنا بالذات اتخذت الحركات الاحتجاجية وجهة مزدوجة: اقتصادية وسياسية.
اقتصادية بسبب ازدياد
الفقر والعوَز (مع ازدياد الفساد)، وسياسية متصلة بها وممثلة بالأحلام السياسية
الامبراطورية التي تحوّلت كوابيس ضاغطة على مختلف الطبقات الاجتماعية، وهذا ما أدى
إلى امتزاج السياسي والاقتصادي والمالي والأخلاقي في منظور أغلبية الشعب الإيراني.
فإلى القمع الداخلي، وجنون سياسي في الخارج، عبر إيديولوجيا فارغة، مذهبية، بلا
مضامين، سوى ما تقدمه إلى أهل السلطة من مشاعر التفوق، والعظَمَة الباطلة، والتي
«تبلورت» في مشاريع حروب منهجية مدمرة. دفع ضحايا جنون النظام من العرب والإسلام
أثماناً، ودفع، في التوازي أثمانها الباهظة الشعب الإيراني كلّه. غير أنّ الضحية
مزدوجة والانتحار مزدوج. وقد زاد الطين بلّة انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق
النووي الذي أبرمه أوباما والنظام، واعتبر لاغياً، وما أعقبه من عقوبات اقتصادية
أعلنها ترامب على النظام.
الذروة
هنا بلغت الأزمة ذروتها..
ووجد النظام نفسه وشعبه معزولين وحدهما عن العالم: ويعاني الأول من فقدان أهليّته
في قيادة البلاد، والثاني يعاني نتائج هذا التهوّر: فالشعب الإيراني وجد نفسه
قريباً قرباً حميمياً من الشعب السوري الذي دمّر بلاده النظام وهجّره. أَوَلم يسبق
أن هجر نظام الخميني (وقتل) حلفاءه في الثورة ضد الشاه كحزب تودة ومجاهدي خلق،
والليبراليين والقوميين. أَلم يهجّر الخميني نفسه مئات الألوف من الشعب الذين
اعتبرهم من إرث نظام الشاه، وها هم مشرّدون في بقاع الأرض؟
البازار
في ثورة 2009 (المتأثرة
عميقاً بثورة الأرز) وما تلاها من تحركات شعبية. بقيت سوق العمل البازار وهو أحد
المحركات الأساسية للاقتصاد الإيراني على حدة». لكن، وللمرة الأولى منذ ثورة
الخميني، نزل إلى ساحة الاحتجاج.
وإذا كانت تحركات 2009
انحصرت في طهران فإن التحركات اللاحقة عمّت العديد من المدن الإيرانية لا سيما
الريفية التي كانت تُعتبر الخزان الكبير للنظام. فمنذ تهاوي العملة المحلية، التي
وصل فيها الدولار إلى أكثر من 90 ألف ريال، والإجراءات الفاشلة لكبحه، وبات النظام
أعزل: تضاعفت الاحتجاجات بدخول البازار في صفوفها، وكذلك بعض قوى النظام، وبات
الشعب أمام أبواب جديدة تتجاوز المطالب المطروحة إلى تغيير النظام نفسه. وإذا كانت
شعارات مثل «فليسقط الدكتاتور» (أي المرشد الأعلى)، أو «فليسقط نظام الملالي»، قد
رُفعت في احتجاجات عدّة سابقة، فإنها تتصاعد اليوم بقوة: ماذا يبقى من شرعية نظام
خسر كلّ حروبه الخارجية (التي دفع الشعب أثمانها) في العراق وسوريا واليمن
والبحرين، (وخسر الاتفاق النووي الذي كان يعوّل عليه بتعزية هذا الكيان الفاشل).
ماذا تبقى للنظام؟
ماذا تبقى للنظام من شعبه
«وارث الثورة الخمينية» الذي هزّته النتائج الكارثية لرعونته. وقلّة تبصراته،
واستشعاراته وأميّته، وفساده. الشعب اليوم في ضفة والملالي في ضفّة أخرى، يتصارعان
على حلبات كثيرة، حتى وصل الأمر بالقيادات إلى تهديد المحتجّين بالإعدام والسجن
والسحق، ليعبّر بعض أركان هذه القيادات بأن هناك مؤامرة أميركية لإطاحته، قافزاً
فوق كل المعطيات المادية التي يعانيها الناس.
«هلاله» انكسر. وطموحاته
الامبراطورية تهاوَت كعملته الوطنية، كأنما ذابت ثلوج الإيديولوجيا كذريعة
للاستبداد وبانت حقيقته البائسة. فهل يعتمد «الملالي» ما اعتمده الأسد في سوريا
لقمع ثورة شعبه بقتله وتهجيره وتدمير بلده؟ لقد عاد الخنجر الذي شهره على العالم
العربي والإسلامي إلى نحره. فقد بدا واضحاً للناس وللعالم أن كل مشاريع هذا النظام
التوسعية مدفوعة بغرور وعماء وصمم كاملة نوعاً من الانتحار المتعدد: للشعب العربي
الإسلامي الذي دفع أثماناً باهظاً لغزوه، ولشعبه الذي وجد نفسه معزولاً عن العالم،
ومفلساً، ووحيداً، أمام مصائره المجهولة، والنظام نفسه الذي بدأ يحصد ما زرعه.
تأثر الشعب بما حوله
وهل من المستغرب ألا يؤثر
في الشعب ما يجري حول النظام من تغيرات في العالم، ومن تحولات، تعزز فيها إرادة
الناس، أو تزدهر اقتصاديّاتهم، كالسعودية مثلاً: ففي الوقت الذي يستعد النظام
السعودي بطموح ولي العهد محمد بن سلمان إلى مغادرة الكثير من التقاليد التاريخية،
وفي مطلعها منع المرأة من قيادة السيارات، بالسماح لها، ليس فقط السيارات
الخصوصية، بل العمومية أيضاً والشاحنات والطائرات (أي المرأة العاملة المنتجة)
والدراجات النارية وسائر وسائط النقل.
إنه انتصار رمزي للمرأة
السعودية وللنظام. أولم يتأثر الشعب الإيراني بخطة السعودية الاقتصادية لما بعد
مرحلة النفط والاستعداد لها؟
ألم يتأثر الشعب الإيراني
بلبنان الذي يحقّق شعبه (برغم ظروفه القاهرة)، انتصارات «ديموقراطية» وتنامي
الحريات الفردية؟ ألم يتأثر الشعب الإيراني بما تحقّقه الإمارات الخليجية من تطور
اقتصادي ومن رفاهية لشعبها؟ ألا يتأثر الشعب الإيراني بنجاح الثورة التونسية،
لتطوير نظامها نحو مزيد من الحريات وأشكال التنافس السياسي الحر؟ ألم يتأثر الشعب
الإيراني بتعافي الاقتصاد المصري بعد أزماته الكبيرة؟ ألا يتأثر الشعب الإيراني
بالنمو الاقتصادي والسياحي في المغرب العربي، وبالدستور السياسي القائم على حريات
التعبير، وإنشاء الأحزاب الموالية والمعارضة؟
ومن ناحية أخرى، ألم
يتأثر الشعب الإيراني أولاً بالانتفاضات الفلسطينية المتعاقبة ضد الاحتلال
الصهيوني؟ بل ألم يتأثر بالشعب الأوروبي (وحتى الأميركي) الذي يمتلك ناسه الحرية
بالحركة، والاستثمار، والاختيارات السياسية وبوجود أنظمة ودول ترعى حرّياتهم
ومصالحهم؟
ينظر الشعب الإيراني حوله
إلى العالم القريب (العرب الذين يشيطنهم النظام ويهّجرهم ويقتلهم نظامه) وإلى
العالم الأرحب؟ أَوَليس من الطبيعي أن يقارن بين أوضاعه المزرية التي تفتقد كل ما
يصنعه الآخرون من حوله؟ وماذا يرى: هناك ثقافة الحياة، والحرية، والتقدم، والسلم
الاجتماعي، وعنده ثقافة الموت، وحروب الماضي، وتخيلات توسعية لم ينتج عنها سوى
الموت والقتل والعذاب والخراب؟
وماذا يرى: مرشداً بلبوس
التقوى، والسلطة المطلقة والجنون المتفلت، وضعف المقدرات العلمية والسياسية.
وماذا يرى: حرسا ثوريا فاسدا، سارقا، قامعا. يعامل شعبه بمثل ما يعامل الشعوب الأخرى التي «استنسبها
مع مرشده» عدوا وشيطانا، يجب محوها؟
يفتح الشعب الإيراني يديه
فإذا بهما فارغتان. وعيونه فإذا بها مظلمة، وحاضره فإذا به مسدود؟ ومستقبله فإذا
به مجهول، وتاريخه فإذا به مزوّر، وحضارته السابقة فإذا بها مدمرة..
ماذا يفعل هذا الشعب
عندما يُطالب النظام بحقوق القرن الحادي والعشرين، فيجيبه بعقلية القرن العشرين،
ثم يقترح عليه حلولا من القرن التاسع عشر؟
فالتفاوت الزماني
والمكاني يتعمّق بين شعب يريد أن ينضم إلى مسار العالم الحديث وبين نظام ما زال
متجمّدا في مراحل ألفية عفا عليها الزمن!
وهل يبقى أمامه سوى الثورة
الشاملة التي تتجاوز الأوضاع الاقتصادية والإيديولوجية والمطلبية الراهنة.. إلى ما
هو شامل. أي إلى مسؤولية النظام الكاملة في وصول الأمور إلى هذه النقطة الفاصلة؟
لم يعد عند النظام ما
يقدّمه. وإذا كان لا بدّ أن يقدّم شيئا نافعا للناس... فلن يكون سوى رحيله.
المستقبل اللبنانية