لماذا ينبغي التذكير دائما بـ"المسكوت عنه" أو المهمش والمقموع في جميع الخطابات المهيمنة على المشهد الإعلامي؟ لماذا تجب "مساءلة" هذا المشهد "المأزوم" وحمله على التفكير في ما لا يريد (أو لا يحتمل) التفكير فيه؟ لماذا علينا أن نخرج من استراتيجيات "التلاعب بالعقول" ونوازع التسييس والتوظيف الحزبي أو الأيديولوجي؟ لا شك أن بعض "المقول" في هذا المشهد الإعلامي موضوعي ورصين، ولكنه رغم ذلك يحتاج إلى "تكملة" لا تطمع بالضرورة في إحراجه أو "نقضه"، بل هي تسعى أساسا إلى دفعه إلى استدماج بعض العناصر المغيبة قصدا أو سهوا (وهي معطيات سياقية قريبة وبعيدة)، تلك المعطيات التي لن يكون "للإرهاب" من معنى حقيقي إلا باستحضارها كلها.
هل يحتاج الإرهاب إلى أكثر من كل هؤلاء الشهداء المشهورين منهم وخاملي الذكر (رحمهم الله جميعا) ليكون حقيقة "موضوعية"؟ هل نحتاج إلى أكثر من هذا الاحتقان الاجتماعي المهدد بالاحتراب بين الأهالي على أساس "أيديولوجي"، لنفهم أنه لا مهرب لنا من البحث عن أفضل السبل للتعايش مهما كانت أحقادنا "المقدسة" ومصالحنا المتباينة؟ بالطبع لا يحتاج "الإرهاب" الى أكثر من شهيد واحد ليجعلنا نفكر "معا" في أفضل السبل للتصدي له، بعيدا عن المزايدات السياسية وخارج آليات التنفيس عن الأحقاد الأيديولوجية. ولكن بين حقيقة وجود الإرهاب وضرورة مواجهته، وبين من يريدون اختزاله في مكوّن من مكوّناته (رافضين اعتبار أن الإرهاب ظاهرة مجتمعية معقدة تتجاوز الحقل الديني لترتبط بالحقول الثقافية والسياسية والاقتصادية)، توجد مساحة للتفكير سيحاول هذا المقال أن يتحرك ضمن ممكناتها.
مهما كانت مخرجات اجتماعات قرطاج، ومهما كان مصير الحكومة الحالية في تونس، برئاسة يوسف الشاهد، ستقرأون وتسمعون وترون اتهامات للنهضة ولمرحلة حكم الترويكا (وهي اتهامات معقولة حين ترتبط بالضعف البنيوي في أداء الترويكا وفي عجزها عن مواجهة كل مظاهر الاستضعاف الممنهج للدولة بما فيه الخطر التكفيري الذي يقتات إلى الآن بضعف الجبهة الداخلية).. ستقرأون اتهاما لرئيس الجمهورية بإضعاف "العائلة الديمقراطية" والتستر على أخونة الدولة؛ بالمضي قدما في سياسة التوافق مع حركة النهضة، واتهامات لقطر وتركيا ولكل نفس نقدي يعارض توصيات لجنة الحريات الأساسية والمساواة، واتهامات لكل نقابي أمني يدعو إلى بناء أمن جمهوري بعيد عن التجاذبات السياسية، ولكنكم لن تقرأوا أبدا اتهامات لهذه الأطراف:
1- لن تقرأوا أبدا لأحد "المثقفين" الذين كانوا جزءا بنيويا ووظيفيا من نظام ابن علي؛ يتهم المقاربات الأمنية البائسة لذلك النظام، ولن تقراوا لهم يعترفون (في إطار نقد ذاتي) بتواطؤ الكثير من القوى"الحداثية" في تنفيذها. وهو ما يمكن التمثيل له بلجان التفكير التجمعية وسياسات تجفيف منابع التدين، تلك السياسات التي أشرفت عليها نخب "أكاديمية" دمّرت الحقل الروحي في تونس، وجعلت المساجد ملاحق دينية بوزارة الداخلية وعُمدها من جهة، وبالتجمع ولجان تنسيقه وشعبه من جهة أخرى، ثم نراهم الآن يتحدثون عن تحييد المساجد، وكأنها كانت مستقلة منذ تأسيس ما يُسمى بالدولة الوطنية بعد الاستقلال الصوري عن فرنسا. فاستقلال المنابر الدينية عندهم هو خضوعها لإملاءات الدولة ومن يحددون السياسات الدينية من النخب العلمانية الفرنكفونية.
2- لن تقرأوا لهم وهم يتهمون خطابات الكثير من النخب التي تصر (رغم ما جرى في 14 كانون الثاني/ يناير) على التضاد المطلق والنهائي بين الإسلاميين والدولة المدنية، وتعمل على نقض أي أفق مفهومي أو مؤسسي للتعايش بين الإسلاميين و"القوى الديمقراطية".. ولن تقرأوا اتهامات للخطابات الاستفزازية الاستعلائية الصادمة للوعي الجمعي من جهة، والرافضة، من جهة أخرى، لأي مراجعة جذرية للأيديولوجيات الصدامية (اليسارية خاصة)، تلك الأيديولوجيات التي ارتد أغلب أصحابها عن الصراع الطبقي، وما زالوا يصرون على إدارة الصراع على أساس ثقافوي بائس، ويرفضون الاعتراف بمنطق الاحتكام للصناديق ويعتبرون وصول الإسلاميين إلى السلطة (حتى في بلاد الواق واق) مجرد مظهر لاختيارات "شعبوية" ومجرد "فاصلة عابرة في التاريخ".
3- لن تقرأوا لأحد "الخبراء" أو تسمعوه يتهم أداء الحكومات التجمعية (حكومة الغنوشي1+2) وشبه التجمعية (حكومة الباجي قائد السبسي)، ودور تلك الحكومات في إعادة إنتاج الشروط الموضوعية لتفشي الظاهرة السلفية (إطلاق سراح العديد من السلفيين الجهاديين من دون أي خطة أمنية لتحييدهم أو مراقبتهم، وتواصل منوال التنمية اللامتكافئ والتفقير النسقي للأحياء الشعبية المحيطة بالعاصمة، وتفشي ظاهرة التهريب والعلاقة المشبوهة بين أباطرة هذه التجارة والقوى الإرهابية، والاقتراض العبثي من الجهات المانحة مقابل المزيد من التنازلات عن الثروة الوطنية)، وهو إرهاب "اقتصادي" تواصل في فترة حكم الترويكا وازداد رسوخا بعد انتخابات 2014 واحتلال التجمعيين الجدد لمركز السلطات التنفيذية والتشريعية.
4- لن تجدوا اتهاما واحدا لأولئك الذين رفضوا التعامل العقلاني والبراغماتي مع الظاهرة السلفية، بعيدا عن الأحقاد الأيديولوجية والتوصيفات النمطية والتعميمات اللاوظيفية، (وكأن السلفية جسد متجانس لا تدخله الاختلافات والتناقضات أيضا)، وهو أمر عملت به الكثير من الدول التي عانت من الإرهاب السلفي وحققت نتائج مشجعة (السعودية والمغرب، على سبيل الذكر لا الحصر). فلا يمكن اختزال التعامل مع جميع السلفيين في المنطق الأمني (أي "تببيض" إرهاب النقابات الأمنية وعودة القبضة الحديدية للمافيات المهيمنة على تلك النقابات، تمهيدا لضرب كل أشكال الإسلام السياسي بل تمهيدا لضرب الحياة السياسية كلها). ولكنّ عدم اختزال التعامل في المنطق الأمني لا يعني استبعاد هذا التعامل أو بخسه حقه، بل منتهى ما يعنيه أن يكون جزءا من مقاربة "مجتمعية" شاملة يكون قرارها النهائي "سياسيا"، أي خارج الدوائر الأمنية.
5- لن يجرؤ الا القليل على اتهام المستفيد الأكبر من العمليات الإرهابية. فحتى لو استبعدنا وجود علاقة "تعاون" بين بعض الأطراف السياسية النيو- تجمعية (بوساطة استخباراتية إقليمية أو أمنية محلية)، وبين القوى السلفية "الإرهابية"؛ لأن هذه العلاقة تحتاج إلى أدلة تجعلنا نوقن بوجود تعاون حقيقي، وليس مجرد التقاء موضوعي لا يبلغ مرحلة التحالف القصدي).. حتى لو استبعدنا تلك الفرضية، فإنه لا يمكننا التساؤل عن "التوافقات" المريبة بين التحركات الإرهابية وبين مصالح الكثير من القوى الانقلابية، كما لا يمكننا أن نغفل عن الخدمة الكبيرة التي تقدمها هذه العمليات الإرهابية لبعض أطراف الصراع في حرب الخلافة، أي الحرب المفتوحة على وراثة حزب نداء تونس، بل وراثة الوكالة الأساسية لمنظومة الحكم ونواتها الصلبة (المركّب المالي- الجهوي- الأمني الحاكم منذ الاستقلال الصوري عن فرنسا).
6- لن تجدوا في "حواراتهم" أو دراساتهم اتهاما للجوار الإقليمي (جنرالات الجزائر المتمردين على سياسات الدولة الرسمية)، ولا اتهاما لممالك النفط (السعودية والإمارات خاصة)، ولا "لأمهم فرنسا" التي لم تدخر جهدا في مقاومة ثورة 17 كانون الأول/ ديسمبر، ولا في تجييرها لخدمة مصالحها ومصالح وكلائها التقليديين (ونظامهم المافيوزي ذي البنية الجهوية- الزبونية)... لن تقرأوا اتهاما للوبيات الأمنية التي لا يخفى ارتباط أغلب قادتها (النقابيين) بمافيات التهريب وبأجندات حزبية وبقوى اقتصادية كانت هي العمود الفقري للاقتصاد التابع زمن المخلوع"... ستقرأون اتهاما لكل الذين يرتبطون بمفاعيل 23 تشرين الأول/ أكتوبر، ولكنكم لن تقرأوا اتهاما واحد لكل المرتبطين بـ7 تشرين الثاني/ نوفمبر1987 ولا بـ13 كانون الثاني/ يناير 2011، وستجدون ألف مظهر من مظاهر الإرهاب النفسي، والحث على التقاتل بين الأهالي في القنوات الخاصة التي تحولت إلى قواعد متقدمة للدولة العميقة واستراتجياتها الانقلابية على مسار الانتقال الديمقراطي.
7- لن تقرأوا أبدا اتهاما واحدا لوسائل الإعلام بإضعاف الجبهة الداخلية وضرب الوحدة الوطنية الضرورية لمواجهة الإرهاب. فقد تحولت الكثير من وسائل الإعلام الخاصة إلى حليف موضوعي للإرهاب؛ بالتشويش على سياسات الدولة الأمنية ومحاولة استهداف النقابات الأمنية الرافضة لسياسات التطويع والتوظيف (وذلك عبر التسريبات المفبركة والمعلومات المغالطة المؤثرة على معنويات الأمنيين وعلى نفسية المواطنين)، ولا يمكن لأي مراقب محايد للشأن التونسي أن ينفي تأثير في تماسك الجبهة الداخلية أو دوره المشبوه في خدمة بعض القوى الإقليمية المعروفة بعدائها للثورات العربية.
ختاما، فإنّ أغلب التحليلات "الناقدة" للإرهاب في منابر الدولة العميقة المكتوبة والمسموعة والمقروءة؛ هي في جوهرها جزء من الاستراتيجيات "الانقلابية" التي لا يهمها القضاء على ظاهرة الإرهاب، بقدر ما يعنيها توظيف تلك الظاهرة في محاربة خصم سياسي معين وخدمة النواة الصلبة للمنظومة الحاكمة منذ الاستقلال الصوري عن فرنسا، ولذلك لا يستحق أصحابها ردا أبلغ من رفع قضية تتهمهم بـ"انتحال" صفة "خبراء" أو "إعلاميين"، والتحريض على التقاتل بين الأهالي والدعوة إلى تغيير هيئة الحكم بعيدا عن التداول السلمي والقانوني على السلطة.
ولا شك في أنّ الحديث عن دولة مدنية وعن ترسيخ ثقافة "الاحترام" (أي احترام الاختلاف الأفقي الذي لا يكون لأحد فيه فضل أو ميزة على الباقي) التي تتجاوز ميراث "التسامح" (أي الاختلاف العمودي الذي يكون فيه التسامح منّة وفضلا من القويّ والمهيمن).
لا شك في أن ذلك كله يفترض - قبل كل شيء - تجاوز الانساق الأيديولوجية المغلقة، وعدم استصحاب الاحقاد التاريخية، كما يستوجب الإيمان المبدئي (لا الخطابي- الصوري) بالديمقراطية "التشاركية" وبالعقل "التواصلي"، و"الثقة" في عقل "المواطن" وعدم "إرهابه" نفسيا بكل تلك التوصيفات الاستعلائية عندما لا توافق اختياراته انتظارات "النخبة" أو مصالحها.
هل الإسلامي هو حليف بـ"القوة" لدولة المواطنة أم للحركات الإرهابية؟
إعلاميون ومحللون وخبراء في الإرهاب أم ناطقون باسمه؟
على هامش تقرير لجنة الحريات بتونس: الصراع على المنظومة القانونية